الحرة بيروت ـ بقلم: أحمد حمزة، طالب في كلية الألسن قسم اللغة الألمانية
كل ما أذكره عن ثورة يناير هو لعب الكرة على الأرصفة الخالية من السيارات ليلاً، وأنا مشارك في اللجان الشعبية. يمكنك غض الطرف وتجاهل لفظ ثورة، وتسميته كما تحب: أحداث شغب مثلاً أو أي شيء، لا يهم، لكني لا أنسى وأنا ابن العاشرة حينها هتافات مثل “عيش حرية عدالة اجتماعية” أو”الشعب يريد إسقاط النظام”.
أظن أنه لو علم أحد ما كان يخبئه المستقبل، أو ما آلت إليه الأمور الآن، لكانت هتافات الثورة: “عيش، دم لا يا ولاد المفترية، حرامية حرامية، بس نفوّل التانك بميّة”.
كبرت واكتشفت عالماً آخراً ودولاً أخرى مجاورة حدثت فيها ثورات قبل وبعد ثورة (أحداث شغب) يناير – لا يهم المسمى كما أسلفت – أطلقوا عليها مسمى “ثورات الربيع العربي”.
ثورات الربيع العربي
شرارة اندلعت في عدة محطات في الوطن العربي، بداية من تونس وأطاحت بزين الدين العابدين، مروراً بمصر ضد نظام مبارك حتى تنحيه في 11 فبراير، ثم ليبيا ضد معمر القذافي وانتهت بقتله وتحولت إلى حرب أهلية بدعم عسكري من الناتو، وحتى الآن مازلت ليبيا غارقة في الصراعات بين الفصائل.
ولا يمكن أن ننسى اليمن الذي واجه فيه الرئيس على عبدالله صالح احتجاجات أُجبر بعدها على التنحي ودخل بعدها اليمن في مرحلة انتقالية وأوضاع متوترة مازلت قائمة إلى الآن. حتى البحرين، تلك الدويلة الصغيرة اندلعت فيها أيضاً احتجاجات من أكثر من ثلث السكان، لكن قوبلت بقمع من الأسرة الحاكمة أدّى إلى فشلها في المهد، وباتت “ثورة منسية” لا نسمع عنها أي أخبار. والسودان الحزين الممزق بين جيش وعفريت حُضر، وذهب من حَضّره!
وأخيراً سوريا، بيت القصيد هنا، التي آلت فيها الثورة إلى مجازر، ربما؟ مذابح؟ إبادة يمكن؟ لا أعرف لفظاً على وجه التحديد يصف ما حدث في سوريا والشعب السوري منذ اندلاع الثورة حتى اليوم. فقد وثّق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بالأسماء مقتل 499,657 شخصاً من أصل ما لا يقل عن 610 آلاف تأكد من مقتلهم على مدار 11 عاماً من بدء الصراع في البلاد من كافة الفصائل.
أما الأحياء من السوريين فذاقوا المر إما في معتقلات وسجون الأسد، أو في المخيمات على الحدود، سواء في الدول الأوروبية أو الدول المجاورة، حيث أنه، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، بلغ عدد اللاجئين السوريين في منتصف عام 2023 أكثر من 6.5 مليون لاجئ مسجل في 130 دولة حول العالم، مما يجعلهم أكبر مجموعة لاجئين على مستوى العالم خلال العقد الماضي، أكثرهم في تركيا ومصر وألمانيا.
فبشار ذو الوجه الملائكي تسبب في القضاء والتهجير لأكثر من ثلث شعبه بين لاجئ وقتيل كي يحكم سيطرته على البلاد.
سقوط الأسد
قيل”يسقط ربك ولا يسقط بشار”. وها هو يسقط بشار، ويفرّ إلى روسيا، في سرعة لا زلت لا أتخيلها، تفكرني بجِنَّة سليمان عند إتيانهم بعرش بلقيس، وبقي ربك ذو الجلال والإكرام.
فرحة الناس عند نجاح المعارضة السورية في إحراز تقدم وانتصار ملحوظ فضلاً عن دخول دمشق وهروب الأسد تؤكد على أن “لا شيء يبعث الحياة في أمة أكثر من سقوط نظام ديكتاتوري استنزف أرواحها لعقود”. هذه العبارة تلخص مشاعر السوريين وغيرهم من شعوب الوطن العربي بعد انهيار نظام الأسد، لكنها لا تعكس كل الحقيقة. فالسقوط لم يكن مجرد نهاية ظلم، ولحظة نصر، بل بداية لمرحلة جديدة تعج بالتحديات والتساؤلات.
وبينما يتابع العالم ما يحدث في سوريا، وأنباء عن هروب الأسد، ونجاح المعارضة في دخول العاصمة دمشق، وفرحة السوريين بسقوط النظام، ظهر شخص يسلّم على الناس بتواضع، يسير في موكب من السوريين والثوار المحيطين به، يخطب في المسجد الأموي، ويجري حواراً مع الـCNN الأمريكية، التي تصنّفه كإرهابي!
لعل أكثر ما لفت إنتباهي خلال حوار الشرع هو خطابه المتوازن، الذي لا يدعو للانتقام ولا يتجاهل ضرورة المحاسبة. تحدث عن المصالحة الوطنية، وإعلاء قيمة الدولة دون أن يغفل جرائم النظام، وعن بناء دولة حديثة دون إقصاء لأحد.
الجولاني… عذراً، أحمد الشرع
لن أطيل بالحديث عن الشرع ونشأته؛ فموقع ويكيبيديا العربي فيه كل التفاصيل عن حياته ونشأته. تكفي “ثوارات الربيع العربي” كمقدمة للمقال، لكن يلزمني تسليط الضوء على نقاط مهمة في حياته لا بدّ أن يشملها أي حديث عن سوريا اليوم.
أسس ما يعرف بـ”جبهة النصرة” بدعم شبه كامل من تنظيم “داعش”، لكن دون مبايعة أو إعلان ولاء، وبعد ذلك أعلنت جبهة النصرة ولاءها لتنظيم “القاعدة”، وركزت على محاربة النظام السوري وتنظيم “داعش” نفسه في وقت لاحق.
ثم بعد ذلك أعلن الجولاني فك ارتباط النصرة بتنظيم “القاعدة”، وتغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، ثم اندمجت لاحقاً مع فصائل أخرى لتصبح “هيئة تحرير الشام”. الهدف من هذه الخطوة في نظري كان تحسين صورتها أمام المجتمع، لا مؤاخذة، الدولي والمعارضة السورية، ومحاولة كسب دعم داخلي وخارجي.
“إكس” القاعدة رئيساً “انتقالياً” لسوريا
ومن أيام قليلة أعلنت إدارة العمليات العسكرية في سوريا، أن أحمد الشرع سيتولى منصب رئيس البلاد خلال المرحلة الانتقالية، وأصبح “ممثل الجمهورية السورية في المحافل الدولية”. وبعدها خلع البدلة العسكرية، وارتدى الحُلة السوداء الكلاسيكية – صرت أتشاءم من هذا التغيير- وفي نظري رجال القتال للقتال، ورجال السياسية للحكم. لكن لا يهم رأيي على أي حال.
وما علق بذهني بعد سماع خطابه عبارة “أحدثكم اليوم لا كحاكم بل كخادم لوطننا الجريح”. وأسأل الله أن تكون عبارة حقيقية!
من كلامه يمكنك أن تغفل خلفيته؛ فحديثه البرجماتي لأقصى درجة هذا غير معروف لدى الإسلاميين بتاتاً، وبما أن العالم تحكمه المصالح، جعله ذلك مقبولاً إقليمياً وعالمياً. ربما استفاد الشرع من تجارب حركات إسلامية مشابهة مثل النهضة في تونس أو الإخوان المسلمين في مصر. وقرر اللعب بدبلوماسية شديدة مع كافة القوى والفصائل، محاولاً “مسك العصايا من النص” كما نقول في مصر. بعد أن أعلن تفكيك “هيئة تحرير الشام” بالطبع، وهذه الدبلوماسية مع كافة القوى والفصائل على أرض الواقع عسيرة؛ فالمصالح تتضارب وأنصاف الحلول كُفر في أحيان كثيرة.
التحديات الداخلية
قبل الحديث عن أي أساسات لبناء سوريا جديدة لا بد من ترتيب المنزل من الداخل أولاً، ويندرج تحت هذا كثير من التحديات أبرزها:
- إعادة بناء الاقتصاد: فالسوريون يعانون من تدهور اقتصادي حاد، ويعيش معظمهم تحت خط الفقر، ناهيك عن قطاع الخدمات المدمر تماماً والكهرباء تحديداً، فالكهرباء في سوريا لا تأتي في كثير من المدن سوى أربع ساعات؛ وقل هذا بعد سقوط نظام بشار؛ بسبب قطع إيران إمدادات النفط، كذلك فعلت قوات “قسد”.
- ملء فراغ السلطة بإعادة هيكلة وإصلاح المؤسسات الحكومية، بما في ذلك الأجهزة الأمنية والقضائية، لا سيما الجيش؛ فبناء جيش نظامي قوي من أعراق وطوائف وفصائل مختلفة يعدّ تحدياً كبيراً أمام النظام، لكنه أمر ضروري لضمان سيادة الدولة وتعزيز الثقة بين مواطنيها.
- التعامل مع التحديات الاجتماعية الكثيرة، وإدارة التنوع العرقي والديني الذي تتسم به سوريا.
- مكافحة الفساد في المؤسسات الحكومية القائمة بالفعل: هذا تحدٍ كبير أيضاً أمام أي نية في بناء دولة ديموقراطية جديدة. وهذه التحديات الداخلية الكثيرة والمتشعبة تحتاج إلى تكاتف من مختلف للأطراف السورية، بالإضافة إلى الدول الإقليمية المجارورة لسوريا.
- شرعية النظام الحالي: بعد إعلان الشرع رئيساً انتقالياً للبلاد، كان ذلك بمثابة ترجمة لسيطرته العسكرية. لكن في حديثه لم يتطرق إلى تحديد مدة أو إطار زمني للمرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى تفويضه من قبل اللجنة العسكرية بتشكيل مجلس تشريعي انتقالي بنفسه فقط، مما يثير تخوفاً عند بعض السوريين من سياسة الرجل الواحد، برغم إقرارهم أن هذا هو المسار الصحيح، ناهيك عن رعب الأقليات من هذا الموضوع، وبالأخص الطائفة العلوية، التي ينتمي إليها المخلوع بشار الأسد.
التحديات الخارجية
أما على صعيد التحديات الخارجية فأبرزها:
- استمرار الوجود العسكري الأجنبي: حتى الآن لا يزال هناك العديد من القوات الأجنبية على الأراضي السورية من أغلب الجهات، فضلاً عن تدخلات إقليمية، ودعم لفصائل داخلية من قوى دولية ما يزيد المشهد السياسي تعقيداً، ويؤثر على السيادة السورية، ويمنعها من بسط نفوذها الكامل على البلاد.
- العقوبات الاقتصادية الدولية: تواجه سوريا عقوبات اقتصادية تزيد من صعوبة إعادة الإعمار وتحسين الوضع الاقتصادي، وتؤثر بالسلب على قدرتها في جذب استثمارات أجنبية، وتطوير بنيتها التحتية.
- ملف اللاجئين: وبجانب كل هذه التحديات هناك ملف ملايين اللاجئين الذي تواجه الإدارة الجديدة ضغوطاً دولية وإقليمية بشأنه.
الزيارات الخارجية بعد تنصيبه رئيساً
منذ توليه رئاسة سوريا، قام الشرع بزيارات خارجية مهمة من أجل تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول الإقليمية. شملت هذه الزيارات المملكة العربية السعودية حيث التقى ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، وركزت المحادثة على تعزيز التعاون الاقتصادي، وإعادة إعمار سوريا. وتعدّ هذه الزيارة خطوة مهمة نحو إعادة بناء العلاقات بين سوريا والسعودية ودول الخليج ككل خصوصاً بعد زيارة أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، العاصمة دمشق.
وشملت هذه الزيارات الخارجية أيضاً تركيا حيث التقى الشرع في زيارته الثانية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العاصمة أنقرة. وتناولت المباحثات قضايا أمنية مهمة، خاصة التهديدات في شمال شرق سوريا، ومشكلة أحزاب الأكراد فيها، المدعومة من قوى خارجية. وجرى الحديث أيضاً عن مناطق الحدود الجنوبية، التي شهدت تقدّم جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد سقوط نظام الأسد مباشرة، والتي تحتاج إلى ضغط دولي على إسرائيل للانسحاب.
وتعكس هذه الزيارات جهود الشرع، “الرئيس الانتقالي”، لتعزيز العلاقات مع الدول المجاورة، والحصول على دعم إقليمي لإعادة إعمار سوريا، ومعالجة التحديات الأمنية المشتركة. كما تشير إلى تحول في السياسة الخارجية السورية نحو بناء شراكات استراتيجية مع القوى الإقليمية، مما يسهم في تحقيق الاستقرار والتنمية في المرحلة الانتقالية.
ومن تركيا إلى مصر حيث اكتفت الأخيرة بالتهنئة. فقد هنأ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عبر حسابه الرسمي على منصة “إكس” السيد أحمد الشرع بمناسبة توليه منصب رئاسة الجمهورية العربية السورية خلال المرحلة الانتقالية، وجاء هذا مفاجئاً، بعد وصف وزير الخارجية المصري الإدارة السورية بـ”إدارة الأمر الواقع”!
لا شك أن سقوط نظام بشار كان بمثابة الخطوة الأولى في طريق الألف ميل لإعادة بناء سوريا جديدة. لكن ما زال الضباب يعم طريق الألف ميل هذا. فهل يكون الجولاني الرجل المناسب للنهوض بسوريا أم خرجت البلاد من نُقرة بشار لتقع في دُحدِيرة الشرع؟