جريدة الحرة ـ بيروت
في أسبوعٍ تهاوت فيه ملامح الدولة أكثر فأكثر، عقد مجلس النواب اللبناني جلسةً تشريعية بدت في ظاهرها أنها تأتي استجابةً للضغوط الداخلية والدولية لتحريك المياه الراكدة، غير أنها كشفت عمق الشلل المؤسساتي الذي يعانيه النظام اللبناني حيث بقيت الجلسة أسيرة الحسابات السياسية الضيقة، بعيداً عن الوصول لأي اتفاق يتناول الملفات الأكثر إلحاحاً، لا سيّما الاستحقاقات السيادية المرتبطة بالسلاح غير الشرعي، وضبط الحدود، والتهديدات المتنامية على الجبهة الجنوبية.

وتزامنت الجلسة النيابيّة مع استمرار الضغوط الأميركية في ملف سلاح حزب الله، في ظل اقتراب مهلة نهاية العام، التي حددتها واشنطن كموعد نهائي لحسم مصير السلاح غير الشرعي في لبنان، ضمن خطة متكاملة تشمل أيضاً المخيمات الفلسطينية. وفيما تبقى اللجنة العسكرية الخماسية في حالة انتظار ثقيل، يُسجّل جمود واضح في التفاوض، يقابله تسارع في مسار التهويل الإسرائيلي وإشارات إلى إمكان تفجير الجبهة الجنوبية مجدداً. وقد نقلت مصادر دبلوماسية إشارات إسرائيلية مباشرة إلى بيروت عبر وسطاء، مفادها أن بقاء الوضع كما هو عليه لن يكون مقبولاً بعد مطلع 2026.
في الإطار الإقليمي، خلطت السويداء أوراق المراقبين. فالانفجار الأمني في المحافظة الدرزية جنوب سوريا، بدا للبعض كمحاولة إسرائيلية استباقية لضرب ما تصفه واشنطن بـ”الانتقال السلمي” في سوريا، بقيادة أحمد الشرع، الذي يُروّج له كبديل معتدل عن نظام الأسد. فما جرى في السويداء هو تفصيل في لوحة كبرى من التحوّلات الجيوسياسية التي تطال سوريا ولبنان معاً. ووفق تقارير عدة، فإن شرارة الأحداث في السويداء لم تكن بعيدة عن قرار إسرائيلي بمعاقبة النظام الجديد على إخفاقه في ضبط التوازنات المذهبية، خصوصاً بعدما طلبت تل أبيب من دمشق سحب قواتها من محيط المحافظة، وهو ما رفضته الأخيرة، ما أدى إلى استعار المواجهات بين وحدات النظام ومجموعات الأمن الذاتي الدرزية.

أما الخلفية الأعمق للأحداث، فتتمثل في الخشية الإسرائيلية من انتقال القيادة السورية الجديدة نحو تفاهمات إقليمية قد تهمّش دور إسرائيل، وتؤسّس لعلاقات أكثر توازناً مع المجتمع الدولي والعربي، على حساب سياسة “التطبيع المشروط” التي كانت تعتمدها تل أبيب. كما تخشى إسرائيل من أن تؤدي إعادة التوازن الداخلي في سوريا إلى تراجع نفوذ بعض المجموعات المسلحة المتحالفة معها في مناطق الجنوب.
وفي موازاة هذه التطورات، تتعثر المفاوضات الجارية في قطر حول هدنة طويلة الأمد في غزة. ووفق تصريحات رسمية قطرية، فإن المفاوضات ما زالت في مرحلتها الأولى، وتهدف إلى الوصول إلى اتفاق إطاري يمهّد للانتقال إلى مفاوضات غير مباشرة تؤسّس لوقف إطلاق النار الشامل. وأوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، أن العمل جارٍ على مدار الساعة بالتنسيق مع وسطاء من قطر ومصر والولايات المتحدة، وأن اللقاءات المستمرة في الدوحة بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي ليست تفاوضية بعد، بل تهدف إلى بلورة إطار تفاوضي يمهّد لاتفاق مبدئي.
وفي السياق نفسه، عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن تفاؤل حذر، قائلاً إن الأمور “تسير على ما يرام”، وإنه قد يكون هناك ما يُعلن عنه قريباً. فيما واصل الجانب المصري تنسيق لقاءات في الدوحة عبر رئيس المخابرات اللواء حسن رشاد، بهدف تجاوز العقبات وتسهيل إدخال المساعدات والإفراج عن الأسرى، بالتعاون مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الذي سيلتقي الرئيس ترمب في واشنطن قريباً للإعلان عن اتفاق غزة فور التوصل إليه. وتشير تسريبات إلى أن إسرائيل قدمت خريطة ثالثة لانتشار قواتها خلال فترة التهدئة التي قد تمتد إلى ستين يوماً، وسط خلافات مستمرة حول الانسحاب الإسرائيلي وتوزيع المساعدات.
اللافت في هذا المشهد المتشابك أن المفاوضات لا تزال تراوح في مساحة ما قبل التفاوض الحقيقي، إذ لم تُحسم بعد المبادئ الأساسية التي ستحكم المرحلة المقبلة، وهو ما أكده المتحدث باسم الخارجية القطرية حين أشار إلى أن اللقاءات ليست تفاوضية بالمفهوم التقليدي، بل تُبنى للوصول إلى إطار تفاوضي لاحق.

كل ذلك يضع لبنان مجدداً في موقع الانتظار، وربما الترقب القلق، إذ إن أي انفجار في غزة، أو انهيار لمسار التسوية، سيرتدّ مباشرة على جبهته الجنوبية، في ظل اشتراط إسرائيل ربط الملفين. كما أن أي نجاح للمساعي القطرية–المصرية–الأميركية قد يحمل معه تسوية أشمل، ولكن على حساب التوازنات اللبنانية الداخلية، إذا ما أصرّت تل أبيب على شرط نزع سلاح حزب الله كمدخل لأي اتفاق.
وفي مقابل هذا المشهد، تبدو الدولة اللبنانية غائبة كلياً عن التفاعل مع التطورات المتسارعة، سواء في محيطها المباشر أو في الداخل. فلا الحكومة تملك رؤية واضحة، ولا المجلس النيابي يُنتج قرارات، ولا القوى السياسية مستعدّة للذهاب نحو تفاهمات كبرى. وما الحديث عن إصلاحات أو خطط نهوض سوى تكرار لمعادلات لفظية لم تعد تقنع أحداً.
ختاماً، هو أسبوع آخر من الانهيار البطيء، تتقدّم فيه الأحداث من حول لبنان، فيما هو لا يزال حبيس عجزه البنيوي وشبكة مصالحه المعطِّلة. ومع تسارع التحوّلات في سوريا وغزة، واقتراب لحظة الحقيقة في ملف السلاح، يبدو أن لبنان أمام مفترق حاسم: إما أن يستعيد المبادرة السيادية في إدارة أزماته، أو أن يتحوّل رسمياً إلى هامش في خرائط الآخرين.


