ترجمة – خاص جريدة الحرّة
لطاما حظي لبنان سابقاً بلقب “باريس الشرق الأوسط” كرمز للثقافة الراقية والتعايش الديني وحرية الفكر في المنطقة. عاصمته، بيروت، كانت أكثر من مجرّد مدينة، لا بل رمزاً للحياة الكوزموبوليتية في العالم العربي، حيث تضجّ المقاهي بالنقاشات السياسية، وتزدهر الجامعات بتعليم التفكير النقدي، وتتعايش مجموعة متنوعة من السكان في وئام نسبي. هذا وقد ازدهرت الخدمات المصرفية والسياحة والتبادل الثقافي، مما جعل من لبنان جسراً بين الشرق والغرب.
لكن هذا الماضي النابض بالحياة اندثر مع العقود الأخيرة التي شهدت تلاعبات خارجية، خاصة من قِبل إيران وسوريا، واضطرابات داخلية، وقبضة خانقة من نفوذ “حزب الله”، ما أطبق بالكامل على الحوارات المفتوحة. ومنذ اندلاع الأعمال العدائية بين إسرائيل و”حزب الله” في أكتوبر 2023، ظهر تحوّل ملحوظ في الخطاب العام اللبناني. فقد كشفت الاستجابة العسكرية الإسرائيلية عن نقاط ضعف “حزب الله” والتكلفة الباهظة لمغامراته على المجتمع اللبناني، ما أفسح المجال لأصوات كانت مقموعة سابقاً لتطفو إلى السطح من جديد.
إن ما يجعل هذا التغيير ذات أهمية خاصة ليس فقط مضمون النقاشات، بل حقيقة حدوثها. فالأصوات التي كانت تُقمع خوفاً من ردود فعل “حزب الله” قبل أشهر باتت تتحدث اليوم علناً عن مسؤولية الأخير عن تدهور الوضع في لبنان، حيث تمثل هيمنته على لبنان أحد أبرز الأمثلة على كيفية تحوّله إلى دولة داخل الدولة.
بُنيت هيكلية “حزب الله” على ثلاث ركائز أساسية: الاندماج العميق مع المجتمع الشيعي؛ قدراته العسكرية التي غالباً ما تجاوزت قدرات الدولة اللبنانية؛ وقدرته على التلاعب بالنظام السياسي الطائفي في لبنان. وقد شهد المشهد السياسي اللبناني تحولات جذرية منذ الاستقلال حتى اليوم، حيث تمّ تأسيسه بداية تحت انتداب فرنسي وبغالبية مسيحية، كما باتفاق لتقاسم السلطة يعكس حقيقته الديمغرافية.
فقد كان المسيحيون، وخاصة الموارنة منهم، القوة السياسية المهيمنة، حيث شغلوا منصب الرئاسة ومواقع رئيسية في الحكومة. ولكن مع التغيرات الديمغرافية التي نتجت عن الهجرة خلال الحرب الأهلية، تغير هذا التوازن بشكل جذري. فانخفضت نسبة المسيحيين بعد أن شكّلوا الأكثرية في لبنان. وتشير التقديرات إلى تراجع عدد المسيحيين من حوالي 60% في الأربعينيات إلى نحو 30-35% اليوم.
برز هذا النزوح بشكل لافت خلال الحرب الأهلية اللبنانية بين العامين 1975 و1990 والسنوات التي لحقت بها، حين كان لبنان خاضعاً للاحتلال السوري. وقتها جاء صعود “حزب الله” نتيجة تنفيذ استراتيجيات عدّة:
- الاندماج الاجتماعي: تعمّق “حزب الله” في المجتمع الشيعي عبر تقديم الخدمات الأساسية التي فشلت الدولة اللبنانية في توفيرها، مثل الرعاية الصحية والتعليم وبرامج الرعاية الاجتماعية، مما خلق علاقة اعتماد ترجمت إلى ولاء سياسي.
- السيطرة العسكرية: عبر الحفاظ على قوة مسلحة تجاوزت قوة الجيش اللبناني، حيث استطاع “حزب الله” فرض إرادته عبر تهديدات ضمنية أو صريحة باستخدام القوة، زاعماً أن هذه القوة غايتها “مقاومة” إسرائيل.
- التلاعب السياسي: إذ استفاد “حزب الله” من النظام الطائفي القائم في لبنان، فعقد تحالفات مع أحزاب أخرى، خصوصاً مع التيار الوطني الحر بزعامة رئيس الجمهورية السابق، ميشال عون، ما منحه القدرة على تعطيل قرارات الحكومة والسيطرة على مؤسسات الدولة الأساسية.
رغم ذلك، شجّعت الديناميات المتغيرة في الفترة الأخيرة في لبنان أصواتاً متنوعة للظهور. من بينها المخرج اللبناني يوسف الخوري كناقد مسيحي لـ”حزب الله”، مقدّماً مفهوم “السلام الإسرائيلي” كمرحلة جديدة محتملة في لبنان، كما وصف القضية الفلسطينية بأنها “وهمية”، زاعماً أن لبنان دُمّر من أجل “كيان ليس موجوداً”. انتقد الخوري صراحة زعيم “حزب الله” حسن نصر الله، متهماً إياه بتلويث العقل اللبناني والتاريخ والتراث. إن استخدامه لمصطلح “السلام الإسرائيلي” عكس مفاهيم تاريخية مثل “السلام الروماني” أو “السلام الأمريكي”، وهو ما يمثّل خروجاً جذرياً عن الخطاب اللبناني التقليدي بشأن إسرائيل.
يمتد هذا الخطاب إلى ما هو أبعد من الأصوات الفردية ليشمل حركات سياسية أوسع. فزعيم القوات اللبنانية سمير جعجع اتخذ موقفاً قوياً ضد تصرفات “حزب الله” الأحادية، مندداً بفتح الحزب لجبهة مع إسرائيل لدعم حماس، مشيراً إلى أن هذه التصرفات أضرّت بلبنان دون إحداث أي تأثير في حرب غزة. كذلك برز صوت البطريرك الماروني بشارة الراعي كصوت قوي ضد القوى التي تسعى لزعزعة استقرار لبنان من الداخل.
يمثل تطور موقف المجتمع المسيحي جانباً واحداً من تحول أوسع في المجتمع اللبناني. ذلك لأن داخل المجتمع السني أيضاً، هناك تزايد في التشكيك في جدوى دعم القضايا الخارجية على حساب استقرار لبنان. وهذا التحول له دلالة كبيرة بالنظر إلى موقف السنة المعتدل تاريخياً، لا سيّما خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث رفضوا بناء ميليشيات أو التورط عسكرياً في النزاع اللبناني.
حتى داخل المجتمع الشيعي، الذي كان تاريخياً قاعدة دعم لـ”حزب الله”، بدأت تظهر بوادر من الاستياء نتيجة الصعوبات الاقتصادية التي دفعت الكثيرين إلى تفضيل الاستقرار على النزاعات الإقليمية. ورغم أن هذا التذمر لا يزال محدوداً نسبياً بسبب نفوذ “حزب الله” القوي في المناطق الشيعية، إلا أن الضغوطات الاقتصادية المتزايدة بدأت تؤثر على رأي قاعدة دعمه التقليدية.
تشير الأحداث الأخيرة إلى أن قبضة “حزب الله” هي في تراجع ملحوظ. فقد أضعف الانهيار الاقتصادي في لبنان قدرته على الحفاظ على شبكة خدماته الاجتماعية، وبالتالي سيطرته على قاعدته. هذا إضافة إلى أن المواجهات الأخيرة مع إسرائيل كشفت حدود قدراته العسكرية، ما أدى إلى “تشويه” صورة حصنه المنيع. كذلك ابتعدت عنه بعض الأحزاب المسيحية بعد أن كانت متحالفة معه، على غرار التيار الوطني الحر.
كلّ ذلك عكس نقاشات بين أطراف لبنانيين تتمحور حول السلام والاستقرار ودور “حزب الله” في البلاد. فقد عبّر الكثيرون عن رغبتهم في تحقيق الازدهار الاقتصادي والاستقرار الإقليمي، بينما يعترف بعضهم الآخر بأن إضعاف “حزب الله” قد يكون مفيداً للبنان على المدى الطويل.