خاص – على مدى عقود من الزمن بعد الحرب الباردة، كان الإنفاق العسكري في أوروبا يعكس واقعاً جديداً من السلام والاستقرار. فقد أعادت الحكومات توجيه الأموال بعيداً عن الدبابات والغواصات والطائرات المقاتلة، وأعطت الأولوية بدلاً من ذلك للمستشفيات والمعاشات التقاعدية وغير ذلك من البرامج الاجتماعية. وكان الافتراض الأساسي واضحاً: فقد كان العالم يدخل حقبة جديدة من التهديدات العسكرية المنخفضة، وكان بوسع أوروبا أن تركز بأمان على تعزيز النمو الاقتصادي والرفاهة الاجتماعية.
ولكن هذا انتهى فجأة. فقد تسببت حرب أوكرانيا وصعود الخطاب الانعزالي في الولايات المتحدة في إحداث موجات صدمة عبر العواصم الأوروبية. والآن يواجه الزعماء في مختلف أنحاء القارة حقيقة أنه يتعين على أوروبا أن تأخذ استعداداتها العسكرية على محمل الجد مرة أخرى.
لقد شهدت حقبة ما بعد الحرب الباردة تخفيضات كبيرة في ميزانيات الدفاع الأوروبية. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، شعرت العديد من الدول الأوروبية بالأمان الكافي لخفض الإنفاق، على افتراض أن حلف شمال الأطلسي، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، سوف يوفر لها دائماً مظلة أمنية قوية. ولكن هذا الاعتماد على الهيمنة العسكرية الأميركية سمح للجيوش الأوروبية بالانكماش، وركود جهودها في مجال البحث والتطوير.
وقد تركت هذه الفترة من الإهمال النسبي القوات المسلحة الأوروبية غير مجهزة بشكل جيد لمواجهة التحديات. فقد أدت المعدات القديمة والقوات الصغيرة الحجم والافتقار إلى التوافق بين الجيوش الوطنية إلى تقليص قدرة أوروبا على العمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة.
وعلى حد تعبير دانييل فيوت، رئيس برنامج الدفاع في كلية بروكسل للحوكمة: “قبل تولي ترامب منصبه، كان يُنظر إلى نسبة 2% باعتبارها السقف. والآن يُنظر إليها باعتبارها خط الأساس”.
معيار الـ2% الذي حدده حلف شمال الأطلسي: هل هو هدف منخفض للغاية؟
لطالما أكدت منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أهمية الإنفاق الدفاعي. ففي عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، تعهدت الدول الأعضاء في الحلف رسمياً بإنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2024. ومع ذلك، كان هذا المعيار قيد المناقشة لأكثر من عقد من الزمن قبل أن يبدأ في اكتساب الزخم.
ورغم الاتفاق الذي تم التوصل إليه في عام 2014، كان التقدم بطيئاً. وحتى اليوم، لا تزال ثماني دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي بعيدة عن تحقيق هدف الـ2%. ويزعم المحللون أن مجرد الوصول إلى هذا الهدف قد لا يكون كافياً لمعالجة التهديدات الحالية التي تواجه أوروبا.
وأدت دعوات الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إلزام الدول الأعضاء في الحلف بإنفاق 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع إلى تأجيج هذا النقاش. ورغم أن مطالبه مثيرة للجدال، فإنها تؤكد على نقطة أساسية: وهي أن اعتماد أوروبا على الدعم العسكري الأميركي غير قابل للاستمرار، وكما يفهم ترامب، فإن هذا غير مقبول بالنسبة لدافعي الضرائب الأميركيين.
عامل ترامب: تحويل مسار النقاش
لقد سلطت رئاسة ترامب الضوء على التفاوت في الإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي. وتردد صدى انتقاداته المتكررة للدول الأوروبية لفشلها في تلبية هدف 2% في شعور بالإحباط يتقاسمه العديد من صناع السياسات الأميركيين. كما أثار خطابه، الذي يلامس أحياناً حدّ العداء تجاه حلفاء الناتو، تساؤلات غير مريحة حول مستقبل التحالف.
وفي محاولته لإعادة انتخابه، أصبح موقف ترامب من حلف شمال الأطلسي أكثر عدوانية. فقد أشار إلى أن الولايات المتحدة قد لا تهبّ لمساعدة الدول الأعضاء في الحلف التي تفشل في الوفاء بالتزاماتها المالية، وصرح بأنه سيشجع روسيا على “فعل كل ما تريده” بتلك الدول. وقد أثارت مثل هذه التعليقات قلق الزعماء الأوروبيين، الذين يواجهون الآن التحدي المزدوج المتمثل في زيادة ميزانياتهم الدفاعية والحفاظ على الوحدة داخل التحالف.
وفي حين تتجادل دول أوروبا الغربية حول مقدار الإنفاق الإضافي على الدفاع، فإن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي الأقرب حدوداً إلى روسيا اتخذت بالفعل إجراءات حاسمة. على سبيل المثال، زادت بولندا إنفاقها الدفاعي إلى 4% من ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2024، وهو أعلى مستوى في الحلف. وتعكس هذه الخطوة الشعور المتزايد بالإلحاح الذي يعتري الدول الواقعة على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، حيث يُنظر إلى التهديد من موسكو على أنه فوري ووجودي.
وفي ألمانيا، بلغ الجدل حول الإنفاق العسكري ذروته. فقد اقترح روبرت هابيك، وزير الاقتصاد في البلاد، مؤخراً رفع الإنفاق الدفاعي إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي مقابلة مع مجلة “دير شبيغل”، صرح: “نحن بحاجة إلى إنفاق ضعف المبلغ تقريباً على الدفاع حتى لا يجرؤ بوتين على مهاجمتنا”. وتمثل مثل هذه التصريحات تحولاً كبيراً في بلد كان حذراً منذ فترة طويلة بشأن التوسع العسكري بسبب إرثه التاريخي.
دور البحوث والتكنولوجيا الدفاعية
إن أحد المجالات الحرجة التي عجز فيها الإنفاق الدفاعي الأوروبي هو مجال البحث والتكنولوجيا. فعلى الرغم من زيادة الميزانيات في السنوات الأخيرة، فقد كافحت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لتلبية معيار حلف شمال الأطلسي المتمثل في تخصيص 2% من إنفاقها الدفاعي لأنشطة البحث والتكنولوجيا. وفي الوقت الحالي، تتجاوز حصة دولتين فقط من الإنفاق على البحث والتكنولوجيا مستوى الاتحاد الأوروبي (80%)، وهو ما يسلط الضوء على اختلال التوازن الصارخ.
بيد أن الجهود التعاونية، مثل الأطر المخصصة لوكالة الدفاع الأوروبية ومبادرات التمويل مثل صندوق الدفاع الأوروبي، تقدم الأمل في سد هذه الفجوة. ومن خلال تجميع الموارد والخبرات، تستطيع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تسريع تطوير التقنيات المتطورة وتحسين قدراتها العسكرية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الأهداف يتطلب التزاماً سياسياً مستداماً واستثماراً كبيراً. ويتعين على المفوضية الأوروبية على وجه الخصوص أن تفهم أن العناوين الرئيسية وحدها لا تكفي لردع المعتدي المحتمل.
نحو عصر جديد من الدفاع الأوروبي
إن التحديات التي تواجه أوروبا متعددة الأوجه. فمن ناحية، يتعين على القادة أن يعالجوا التهديدات المباشرة التي تشكلها روسيا وعدم الاستقرار في أوكرانيا. ومن ناحية أخرى، يتعين عليهم أن يتعاملوا مع التعقيدات المرتبطة بالعلاقة عبر الأطلسي المتغيرة، وخاصة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
لكن لا تشكل زيادة الإنفاق الدفاعي سوى جزء من الحل. إذ يتعين على الدول الأوروبية أيضاً أن تعطي الأولوية للتحديث والتشغيل البيني والاستقلال الاستراتيجي. وقد أصبح هذا المصطلح، على وجه الخصوص، شائعاً في دوائر السياسة الأوروبية. ويشير مصطلح الاستقلال الاستراتيجي إلى قدرة الاتحاد الأوروبي على التصرف بشكل مستقل في المسائل الدفاعية والأمنية، مما يقلل من اعتماده على القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة.
إن تحقيق الاستقلال الاستراتيجي يتطلب تحولاً ثقافياً داخل أوروبا. فعلى مدى عقود، كانت استراتيجية الأمن في القارة مبنية على افتراض الحصول على الدعم الأميركي. ولن يكون التحرر من هذا الاعتماد بالمهمة السهلة، ولكنه أمر ضروري لأوروبا لتأكيد نفسها على الساحة العالمية.
ويحمل الفشل في الاستثمار بشكل كاف في الدفاع مخاطر كبيرة. فأوروبا الضعيفة قد تشجع خصوماً مثل روسيا، مما يقوض استقرار المنطقة بأكملها. وقد يؤدي هذا أيضاً إلى إجهاد التحالف عبر الأطلسي، مع تزايد إحباط الولايات المتحدة إزاء ما تعتبره استغلالاً مجانياً من قِبَل أوروبا.
أوروبا إلى جنود وبحارة وطيارين
وتُظهِر الأرقام الصادرة عن وزارة الدفاع البريطانية أنه في أبريل 2024 كان هناك 63702 مدني يعملون في الوزارة، بزيادة قدرها 6% عن عام 2020 عندما كان هناك 60256 مدنياً. ومع ارتفاع هذا الرقم، فإنه يقترب من 72510 – العدد الإجمالي للضباط والجنود في الجيش البريطاني وقت إجراء الدراسة.
إن هذا الرقم يفوق بكثير إجمالي عدد البحارة والطيارين الذين خدموا في البحرية الملكية والقوات الجوية الملكية والذي بلغ 57260 فرداً في ذلك الوقت. وتستمر الأعداد في كل من الخدمات الثلاث في الانخفاض، وكذلك أعداد الطائرات العسكرية والسفن الحربية.
وعلى الرغم من مناشدات رؤساء الأركان، فإن منصات الإنزال عالية الكفاءة والضرورية للغاية التابعة للبحرية الملكية البريطانية، مثل سفينتي الإنزال “إتش إم إس ألبيون” و”إتش إم إس بولوارك”، قد خرجتا من الخدمة. وإذ لم تبحر أي منهما منذ سنوات، يرجع هذا إلى حد كبير إلى نقص الطاقم، وهناك وضع مماثل في أسطول الغواصات البريطاني المهمل. فبريطانيا لا تملك حالياً أي وسيلة واقعية لنشر قواتها في الخارج. وفي وقت كتابة هذا التقرير، وردت أنباء تفيد بأن السفينة الحربية HMS Bulwark قد تم بيعها إلى البرازيل.
لم يعد بوسع أوروبا أن تتحمل نقص التمويل لجيوشها والاعتماد على الولايات المتحدة في ضمانات الأمن. وقد أبرزت الحرب في أوكرانيا والديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة الحاجة إلى قدرة دفاعية أوروبية قوية ومستقلة.
ورغم أن تحقيق أهداف الإنفاق الدفاعي الأعلى سيكون صعباً، فإن تكلفة التقاعس عن العمل أعظم بكثير. فمن خلال الاستثمار في التحديث والتعاون والاستقلال الاستراتيجي، تستطيع أوروبا ضمان أمنها وفرض نفسها كفاعل عالمي جدير بالثقة. صحيح أن المخاطر كبيرة، لكن احتمالات أوروبا الأقوى والأكثر اتحاداً كبيرة.