جريدة الحرة
خاص ـ أعلنت منظمة حلف شمال الأطلسي، التحالف الدفاعي الذي يضمّ 32 دولة، عن خطط لإنفاق مبالغ طائلة، مع تعهّد بضخّ مليارات الدولارات في جيوشها وأنظمتها الأمنية على مدى العقد المقبل. غير أن هذا الإنفاق الدفاعي يبدو عبئًا يفوق قدرة بعض الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف، والمثقلة أصلًا بديون ضخمة ومتفاقمة.
يقول مارسيل فراتشر، رئيس المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية (DIW): “من غير المسبوق في زمن السلم أن نشهد زيادة هائلة في الإنفاق على أي بند، وخصوصًا على الدفاع”. وكان أعضاء الحلف قد اتفقوا في يونيو 2025 على رفع أهداف الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، أي أكثر من ضعف الهدف السابق البالغ 2%، وهو نفس النوع من الزيادة التي لطالما طالب بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
يأتي هذا التعهّد في وقت تجد فيه الدول الأوروبية نفسها مضطرة للتعامل مع روسيا عدوانية، ومع الولايات المتحدة التي تراجعت عن دورها التاريخي كضامن لأمن القارة. وتواجه الحكومات الأوروبية ثلاث خيارات لبلوغ هدف الإنفاق الجديد: خفض النفقات العامة، أو زيادة الضرائب، أو اللجوء إلى الاقتراض، وهي خيارات يراها كثير من المحللين غير مقبولة سياسيًّا أو غير قابلة للاستمرار على المدى الطويل.
وقد أكد محللون في مركز “بروغل” البحثي، ومقره بروكسل، في يوليو 2025: “تواجه العديد من دول الاتحاد الأوروبي قيودًا مالية صارمة، ومن غير الواقعي أن نتوقّع من دول عجزت عن بلوغ هدف 2% لعقود، أن تلتزم الآن بنسبة أعلى بكثير، وبهذا الحجم غير المبرر”.
خيارات محدودة وواقع صعب
فشلت عدة دول أعضاء في الناتو بتحقيق الهدف السابق البالغ 2%، الذي حُدِّد عام 2014، رغم أنها رفعت إنفاقها بشكل ملحوظ بعد اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022. وبحسب الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، فإن الدول الأعضاء الـ23 في الناتو من المتوقع أن تبلغ هذا الهدف في عام 2025، استنادًا إلى ناتجها المحلي الإجمالي المجمّع. إلا أن الهدف الجديد أكثر طموحًا بكثير.
فقد تضمّن هدف الـ 5% تخصيص 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لتلبية “متطلبات الدفاع الأساسية”، كشراء الأسلحة، و1.5% لدعم مجالات لوجستية كالبنية التحتية للموانئ. وهذا يعني، بالنسبة لبعض الدول، توفير عشرات المليارات من الدولارات الإضافية سنويًّا.
يقول فرانك جيل، كبير محللي التصنيف السيادي في وكالة ستاندرد آند بورز: “تحقيق نسبة 3.5% وحدها سيتطلب من دول أوروبية كبرى، من ضمنها المملكة المتحدة، اقتراض مبالغ ضخمة”. وأشار إلى احتمال لجوء بعض الحكومات إلى تقليص أو إعادة تخصيص الإنفاق العام لتقليل الحاجة إلى الاستدانة، مؤكدًا في الوقت نفسه أن هذا الخيار صعب التنفيذ.
ويضيف فراتشر: “أوروبا تشيخ سريعًا. من غير الواقعي تمامًا الاعتقاد بإمكانية تقليص الإنفاق على المعاشات أو الرعاية الصحية. والطريقة المستدامة الوحيدة للوفاء بهذا الالتزام الدفاعي هي عبر زيادة الضرائب. لكن لا توجد إرادة سياسية ولا قبول شعبي لتحمّل هذه الكلفة الباهظة”.
ديون تهدّد الاستقرار الاقتصادي
الاقتراض أيضًا ليس حلاً سهلاً، خصوصًا أن بعض الحكومات الأوروبية تعاني أصلًا من مستويات ديون تلامس أو تتجاوز الناتج المحلي لبلدانها. وتشير تقديرات ستاندرد آند بورز إلى أن تحقيق هدف 3.5% فقط، قد يُضيف تريليوني دولار إلى الدين العام الجماعي لأعضاء الناتو الأوروبيين، بما فيهم المملكة المتحدة، بحلول عام 2035.
ويُقارن هذا الرقم بناتج محلي إجمالي مجمّع يبلغ 23.1 تريليون دولار، بحسب بيانات البنك الدولي لعام 2024. وسيكون من الصعب للغاية على دول مثل إيطاليا (135%)، فرنسا (113%)، وبلجيكا (105%) تحمّل هذا الدين الإضافي، بناءً على نسبة الدين إلى الناتج المحلي المسجّلة بنهاية عام 2024.
وقد حذّر رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو من أن بلاده تواجه خطر الانهيار المالي بسبب الديون، وقال: “إذا استمرت الأمور على حالها، فإن الفوائد على الدين قد تبلغ 100 مليار يورو في 2029، لتصبح أكبر بند في الموازنة العامة”.
صندوق أوروبي لا يكفي لسد الفجوة
تحاول بروكسل التخفيف من الضغط عبر إعفاء الإنفاق الدفاعي من قيودها المالية الصارمة، وعبر إنشاء صندوق دفاعي بقيمة 150 مليار يورو لتمويل الدول الراغبة في تعزيز أمنها. لكن خبراء يرون أن هذا غير كافٍ.
يقول غونترام وولف، الزميل في مركز بروغل: “الخيار الحقيقي أمام بعض الدول هو ببساطة ألا تنفق. لا يوجد إجماع على تحمّل هذه الأعباء”.
وقد أعلنت إسبانيا صراحة أنها لن تلتزم بنسبة 5%، معتبرة أن ذلك سيُضرّ بإنفاقها الاجتماعي. ففي عام 2024، أنفقت مدريد 1.28% فقط من ناتجها المحلي على الدفاع، وفق أرقام الناتو. ويختم وولف بالقول: “أقوى مؤشّر على الاستعداد للإنفاق الدفاعي ليس الالتزامات في قمم الحلف، بل المسافة من موسكو”.


