الحرة بيروت
في خضمّ الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بلبنان، يتزايد الحديث عن ضرورة إعادة النظر في موقع الطائفة الشيعية داخل المعادلة الوطنية، بعيداً عن الهيمنة الإيرانية وتأثيرات حزب الله. فقد بات واضحاً أن تورّط لبنان في حروب وصراعات إقليمية لا تخدم مصالحه الوطنية قد كبّده أثماناً باهظة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ومع تنامي الدعوات لاستعادة القرار الوطني المستقل، تتبلور الحاجة إلى نقاش جريء داخل المجتمع الشيعي حول مستقبل دوره ومصالحه بعيداً عن الارتباط بمحاور خارجية. فهل حان الوقت للتحرر من وصاية الخارج والعودة إلى الهوية اللبنانية الجامعة؟
تحت هذه العناوين وبرعاية نائب رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية اللبنانية في مجلس الشيوخ، السيناتور كزافييه ياكوفيلي، نظّم معهد لبنان في باريس وحركة “تحرّر” – فرنسا طاولة مستديرة تحت عنوان “لبنان بعد الحرب: آفاق وتحديات”، في مجلس الشيوخ، يوم الإثنين 9 كانون الأول/ديسمبر، دُعي إليها نشطاء سياسيون وفاعلون اجتماعيون من فرنسا ولبنان.
جاءت هذه الندوة، التي تمّ التحضير لها منذ أسابيع، أي قبل دخول قرار وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في بلاد الأرز وعشية سقوط النظام السوري المستبدّ، في الوقت المناسب لتقديم قراءات جريئة للمستجدات الطارئة والتحديات المقبلة على المجتمع اللبناني وكيفية التعامل معها.
وكان السيناتور ياكوفيلي قد افتتح النقاش متحدثاً بإسهاب عن العلاقات المميزة التي جمعت بين فرنسا ولبنان على امتداد التاريخ الغني بالمحطات والمواقف، وصولاً إلى تطورات الوضع السياسي في المنطقة. وأكد على أثر ذلك ثبات دعم فرنسا لسيادة لبنان وشعبه.
من جهتها، أيّدت الأستاذة في كلية إدارة الأعمال في IPAG، الصحافية مايا خضرا، ضرورة العمل من أجل إنهاء دورات العنف بين لبنان وإسرائيل. هذه الحروب القائمة منذ العام 1948، والتي أرهقت لبنان مراراً وفتحت عليه أبواب الجحيم على الرغم من توقيع هدنة عام 1949. ورأت أن السلام الدائم ضروري لحفظ النظام في لبنان وإتاحة الفرص الاقتصادية وتحقيق التنمية، شرط توافر الإرادة السياسية.
إنتقالاً إلى منسق حزب “القوات اللبنانية” في فرنسا ورئيس معهد لبنان في باريس، السيد زهير بصبوص، الذي أشاد بشجاعة حركة “تحرُّر” في مشروعها السياسي الذي ناهض حزب الله حتى قبل انتكاسته وحين كان في قمة جبروته. هذا إضافة إلى الجهود المبذولة لتأكيد انتماء الشيعة اللبنانيين إلى قضايا مجتمعهم وهويتهم الوطنية بشكل أولي ورفض ثقافة حزب الله وسردياته التي فرضها بفائض القوة والترويع ومغريات المال المتدفق من النظام الإسلامي في إيران وعائدات الإقتصاد الموازي للإقتصاد الشرعي.
أما المؤسّس في حركة “تحرُّر”، الدكتور في علوم التربية وأستاذ المواطنية في الجامعة اللبنانية، علي خليفة، فأدان بدوره هيمنة النظام الإسلامي في إيران من خلال ذراعه المتمثلة بحزب الله في لبنان، واصفاً كيف تخنق هذه الأداة حلم الأمة اللبنانية الحرة والمستقلة ومشروع الدولة كأهم متطلبات تحقيق الانتظام في المجتمع. “إن حزب الله يقوم على جثة الدولة في لبنان. لقد انقلب على النظام السياسي القائم من خلال تعطيل آلياته، ما ساهم بالإطاحة بالدولة حتى غدونا مجتمعاً بلا دولة. وحالة الدولة بلا رئيس ليست سوى رأس جبل الجليد الجاثم على الحياة العامة في لبنان. وثمة من كان عليه أن يقول “لا” من داخل الطائفة ويواجه ويجاهر بمشروع بديل لاستعادة الدولة. فواجهنا الشيعية السياسية من عقر دارها في الانتخابات النيابية وما بعدها ورفضنا الشقاء التلقائي الذي أودت إليه”.
وتابع خليفة مؤكداً رفضه أن يكون الشيعة اللبنانيون وقوداً لمشروع النظام الإسلامي في إيران عبر زيادة نفوذه في المنطقة وتهديم لبنان. معتبراً أن التصعيد العسكري الأخير بين حزب الله وإسرائيل، والذي أدى إلى تفاقم التوترات في جنوب لبنان وأغرق البلاد بأكملها في الجحيم، تسبب بخسائر كبيرة في الأرواح وبدمار غير مسبوق في قرى الجنوب وأعاد إحياء النقاشات داخل الطائفة الشيعية اللبنانية. “إن التكلفة الباهظة لهذه المواجهة والإرهاق الاقتصادي في لبنان عززا المعارضة المتزايدة، حتى بين الشيعة الموالين تقليدياً لحزب الله. فبدأ السكان الشيعة، وخاصة المتضررون منهم جرّاء الأزمة الاقتصادية والنزوح القسري، في تحدي منطق حزب الله المتمثل في “الحرب” الدائمة – ولا أقول المقاومة”.
وفي ختام كلمته أشار خليفة إلى أن سقوط نظام الأسد في سوريا سيعزز المعارضة الداخلية لحزب الله كما التعاون الدولي لنزع سلاحه وتحييده. وهو يمثل بداية حقبة جديدة للبنان خالية من الوصاية الخارجية. “أختار مبادرة السلام العربية مع إسرائيل باعتبارها خياراً استراتيجياً، وحركة “تحرُّر” المنطلقة من المعارضة الشيعية في لبنان تقيم مشروعها السياسي على التنمية المستدامة كخيار اجتماعي واقتصادي، وعلى الدولة كمشروع سياسي. ونحن نرفض تماماً منطق حزب الله وسردياته القائمة على الحرب الدائمة وعلى جثة الدولة”.
في المقلب الآخر، كان مسؤول العلاقات مع مجلس النواب والشيوخ، مروان حرب، قد استهلّ اللقاء مذكراً بقيم الصداقة الفرنسية اللبنانية التي صاغتها قرون من التاريخ المشترك، والتي يمكن للبنان الاعتماد عليها ليجد طريقه إلى السيادة والسلام.
وسلطت الصحافية والناشطة في حركة “تحرُّر” – فرنسا، مريم سيف الدين، الضوء على الخسائر الاقتصادية للتصعيد الأخير بين حزب الله وإسرائيل، موضحة أنه، وبعيداً عن وعود حزب الله بإعادة الإعمار وهي غير مؤكدة وغير كافية، يبدو أن ما دمرته إسرائيل لا يمكن إعادة بنائه دون تسوية واتفاق مرتبط بها ودون توافر متطلبات لبدء الدعم المرجو.
وبعد المداخلات جرى نقاش مع الضيوف بإدارة زهير بصبوص، حيث تمّ عرض وجهات نظر وشهادات من لبنان في ضوء أسئلة مختلفة تتعلق بالأحداث الجارية، لا سيما المخاوف التي يمكن أن يثيرها سقوط الأسد، وتداعياته على لبنان. ورحّب بصبوص بفتح صفحة جديدة في المنطقة مع إضعاف وعزل حزب الله وسقوط نظام الاستبداد في سوريا، ما يعني زوال العقبات الرئيسية التي منعت بناء الدولة في لبنان على امتداد الحقبات الأخيرة.
على أي حال، فإن ما طُرح على الطاولة المستديرة في مجلس الشيوخ إنما يؤكد أنه لم يعد من الممكن الاستمرار في سياسة الإنكار أو التهرب من المسؤولية. إن تحرير الطائفة الشيعية من الهيمنة الإيرانية ومن سياسات حزب الله التي زجّت بلبنان في صراعات إقليمية هو ضرورة وطنية، ليس فقط لحماية مصالح الشيعة كجزء أصيل من المجتمع اللبناني، بل أيضاً لضمان بقاء لبنان وطناً لجميع أبنائه، بعيداً عن محاور الصراع الخارجية.
المسار بات واضحاً: قرار لبناني مستقل يعيد بناء الثقة بين مكونات الوطن، ويفتح الباب أمام مستقبل يرتكز على التعايش والشراكة الحقيقية. فالخيار اليوم محصور بين عنوانين: إما الارتهان والتبعية، أو الحرية وبناء وطن يتسع للجميع.