الخميس, نوفمبر 6, 2025
23.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

استقلال أوكرانيا: من الحلم إلى الواقع…

د. خالد العزي

 

جريدة الحرة ـ بيروت

شهدت أوكرانيا يومًا تاريخيًا في 16 تموز/يوليو 1991، في مسيرتها نحو الاستقلال الكامل. خرجت حشود ضخمة من الأوكرانيين إلى شوارع “خريشاتيك”، الشارع الرئيسي في العاصمة كييف، مرتدين قمصانًا مطرزة بألوان العلم الأوكراني الأزرق والأصفر، احتفالًا بذكرى إعلان سيادة الدولة الأوكرانية الذي صدر في عام 1990.

لم يكن الاحتفال مجرّد مظاهر وطنية، بل حمل دلالات سياسية عميقة، إذ أشار إلى سعي أوكرانيا نحو الاستقلال السياسي والاقتصادي ضمن حدود جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية. وقد شكل الإعلان أول خطوة حقيقية لتكريس مفهوم “الجنسية الأوكرانية” المستقلة عن الهوية السوفيتية الخاضعة لهيمنة موسكو. كما تضمّن الإعلان ضرورة وضع دستور خاص، وإنشاء جيش وطني، ونظام مالي مستقل، وميزانية ذات سيادة.

إعلان سيادة الدولة الأوكرانية: الشرارة الأولى

في عام 1990، صوّت البرلمان الأوكراني لصالح إعلان سيادة الدولة، في خطوة أولى نحو الانفصال التام عن الاتحاد السوفيتي. وقد شكّل هذا الإعلان نقطة تحوّل رمزية، إذ عبّر عن رغبة الأوكرانيين في التحرر من قبضة النظام السوفيتي، وبدء مسيرة بناء دولة ذات سيادة حقيقية.

غير أن الطريق إلى الاستقلال لم يكن معبّدًا، إذ واجه الأوكرانيون تحديات وصراعات جمة، في وقتٍ كانت فيه جمهوريات الاتحاد السوفيتي تتململ من الهيمنة المركزية، وسط بوادر تفكك داخلي غير قابل للعكس.

خطة غورباتشوف: الكونفدرالية المؤجلة

في تموز/يوليو 1991، وقبيل إعلان الاستقلال، كانت تجري مفاوضات حثيثة بين زعماء الجمهوريات السوفيتية لإعادة هيكلة الاتحاد في صيغة كونفدرالية تضم دولًا ذات سيادة، من ضمنها أوكرانيا. وقد تم الاتفاق على توقيع معاهدة جديدة لتكريس هذا التحول.

لكن في 19 آب/أغسطس 1991، اندلعت أزمة حاسمة قلبت مسار الأحداث. فقد قاد عدد من كبار مسؤولي الحزب الشيوعي والجيش وجهاز الاستخبارات السوفيتي (الكي جي بي) محاولة انقلاب في موسكو، سعوا من خلالها إلى إقصاء ميخائيل غورباتشوف عن الحكم أثناء قضائه عطلة على سواحل البحر الأسود.

انقلاب أغسطس 1991: بداية النهاية

لم يدم الانقلاب طويلًا. إذ فشل القادة الانقلابيون في فرض سيطرتهم، بفضل المقاومة الشعبية في موسكو، والموقف الحاسم للرئيس الروسي آنذاك بوريس يلتسين.

وبعد ثلاثة أيام من الفوضى، انهار الانقلاب، وتبدلت ملامح المشهد السياسي بالكامل. وبعدها بأيام، وتحديدًا في 24 آب/أغسطس 1991، صوّت البرلمان الأوكراني على قانون استقلال أوكرانيا، في خطوة تاريخية أعلنت الانفصال الفعلي والنهائي عن الاتحاد السوفيتي.

تحديات ما بعد الاستقلال

لم يكن الاستقلال مجرد لحظة سياسية، بل بداية لمرحلة حافلة بالتحديات. أول هذه التحديات كان الاعتراف الدولي، إذ لم تُبدِ بعض الدول، وعلى رأسها روسيا، استعدادًا فوريًا للاعتراف بأوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة.

أما التحدي الثاني فكان اقتصاديًا بامتياز. فالدولة الوليدة احتاجت إلى تأسيس نظام اقتصادي مستقل، يشمل إصدار عملة وطنية، وتطوير قطاعي الصناعة والزراعة، والاستغناء عن الاعتماد الهيكلي على الاقتصاد الروسي.

ومن أكبر التحديات التي واجهتها أوكرانيا كان ملف الجيش. فقد ورثت الدولة الجديدة وجودًا عسكريًا سوفيتيًا كثيفًا على أراضيها، لكنها افتقرت إلى بنية دفاعية خاصة بها. وقد استلزم الأمر وقتًا وجهدًا كبيرين لبناء مؤسسة عسكرية أوكرانية قادرة على حماية الحدود وضمان الأمن القومي.

علاقة أوكرانيا بالاتحاد السوفياتي السابق

رغم انفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي، ظلّت علاقاتها مع روسيا، ومع المناطق الناطقة بالروسية داخل أراضيها، موضع نزاع دائم. ففي الوقت الذي سعت فيه أوكرانيا إلى تعزيز هويتها الوطنية وتأكيد سيادتها، كانت روسيا تعمل على الحفاظ على نفوذها في المجال السوفياتي السابق، ولا سيما في أوكرانيا.

وقد شهد العالم في العقدين الأخيرين تطورات حاسمة في العلاقات الأوكرانية-الروسية، خصوصًا بعد تصاعد النزاع في شرق أوكرانيا، وقيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم عام 2014. إلا أن أوكرانيا أثبتت، في كل مرحلة من مراحل تاريخها الحديث، صلابة إرادتها في الدفاع عن استقلالها وهويتها.

أصداء التصريحات الدولية: عواقب الدعم العسكري الغربي

مع اندلاع الحرب الشاملة بين روسيا وأوكرانيا عام 2022، ازداد الاهتمام الدولي بشكل غير مسبوق بهذا الصراع. واعتبر العديد من السياسيين الغربيين أن الدعم العسكري لأوكرانيا أمرٌ ضروريٌ لمواجهة العدوان الروسي. وفي هذا السياق، قرّرت الولايات المتحدة، إلى جانب حلفائها في الناتو، تزويد أوكرانيا بالأسلحة، وهو ما اعتبره السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام “خبرًا سارًا”.

وفي تصريحات أخرى، شدد غراهام على ضرورة اتخاذ إجراءات صارمة ضد الدول التي تواصل شراء النفط الروسي، مشيرًا إلى أن فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على النفط المستورد من روسيا قد يُحدث أثرًا بالغًا في الاقتصاد الروسي، ويقوّض تمويل الحرب التي يقودها فلاديمير بوتين. وقد شكّلت هذه الإجراءات رسالةً واضحة إلى موسكو، كما إلى الدول المتواطئة معها أو الداعمة لآلة الحرب الروسية.

الحرب الروسية على أوكرانيا: صراع على السيادة والهوية

بعد استقلالها في عام 1991، لم تطالب روسيا رسميًا بأي أراضٍ أو حقوق في شبه جزيرة القرم أو منطقة الدونباس. ففي تلك المرحلة، كانت منشغلة بإعادة تنظيم أوضاعها الداخلية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فيما كانت العلاقات بين كييف وموسكو تبدو، في ظاهرها، مستقرة نسبيًا.

إلا أن قضايا سيادية أساسية ظلت معلقة، وتحوّلت لاحقًا إلى بؤر توتر وجذورٍ للنزاع المزمن بين البلدين، أبرزها وضع الأقلية الروسية في أوكرانيا، وتوزيع النفوذ في الفضاء السوفيتي السابق، وتحديد اتجاه أوكرانيا الجيوسياسي.

الاتفاق الثلاثي 1994: تفكيك الترسانة النووية وضمان السيادة

في عام 1994، وبعد ثلاث سنوات من استقلالها، وقّعت أوكرانيا على اتفاق تاريخي في بودابست، عُرف لاحقًا باسم مذكرة بودابست، لتفكيك ترسانتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي. وقد ضمّ الاتفاق ثلاثة أطراف رئيسية: روسيا، بريطانيا، والولايات المتحدة، ونص على ما يلي:

تلتزم أوكرانيا بالتخلّي عن أسلحتها النووية.

في المقابل، تتعهد روسيا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، باحترام استقلال أوكرانيا وسيادتها، وضمان عدم تعرّضها لأي تهديد خارجي أو انتهاك لحدودها.

كما نصّت المذكرة على أن تبقى أوكرانيا دولة محايدة وغير منخرطة في النزاعات الكبرى أو التحالفات العسكرية.

ورغم أن الاتفاق لم يأتِ صراحةً على ذكر شبه جزيرة القرم أو منطقة الدونباس، إلا أنه كان يُعد بمثابة اعتراف دولي بحدود أوكرانيا المعترف بها دوليًا، وبحقها الكامل في السيادة والاستقلال. ولم تُبدِ روسيا، في حينه، أي إشارات إلى نيتها استعادة السيطرة على أي من الأراضي الأوكرانية.

روسيا “تتذكّر” القرم في 2014: بداية التصعيد

في عام 2014، شهدت السياسة الروسية تجاه أوكرانيا تحوّلًا جذريًا. فبعد احتجاجات “الميدان الأوروبي” (Euromaidan) التي أدّت إلى الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو، تدخلت روسيا عسكريًا، واحتلت شبه جزيرة القرم في مارس من العام نفسه، ثم أعلنت ضمّها رسميًا إلى الاتحاد الروسي.

كان هذا الحدث بمثابة نقطة تحوّل حاسمة، إذ مثّل أول خرق كبير لاتفاق بودابست لعام 1994، الذي تعهدت فيه روسيا باحترام سيادة أوكرانيا وحدودها. في الوقت الذي لم تُبدِ فيه موسكو أي مطالب علنية بالقرم خلال التوقيع على الاتفاق، بدأت تروّج في 2014 لروايات تاريخية تزعم “حقها” في القرم، وتستند إلى سرديات عن “التاريخ المشترك” بين روسيا وشبه الجزيرة.

أزمة دونباس: نزع الهوية وتبريرات تاريخية

بعد ضم القرم، امتد التصعيد إلى منطقة الدونباس شرق أوكرانيا، حيث اندلعت حركة تمرّد مسلّحة في منطقتَي دونيتسك ولوغانسك، بدعم روسي مباشر. ومنذ عام 2014، بدأت روسيا تبرّر تدخّلها بذريعة “حماية الروس الأوكرانيين” و”الدفاع عن حقوقهم”.

في هذا السياق، تبنّت موسكو خطابًا تاريخيًا يدّعي أن مناطق من أوكرانيا، بما في ذلك الدونباس، كانت “جزءًا من روسيا منذ أربعة قرون”، وهو خطاب كرّره الرئيس فلاديمير بوتين مرارًا. وبهذا، أضحت السياسة الروسية تستند إلى تأصيل تاريخي لتبرير الطموحات الجيوسياسية، وهو تأصيل لا يخلو من الأدلجة والتحريف المتعمد للتاريخ.

حرب الهويّة والسيطرة الجيوسياسية

لم تكن الحرب الروسية على أوكرانيا حربًا على الأراضي فقط، بل كانت – وما تزال – حربًا على الهويّة. فمنذ 2014، تتهم موسكو كييف بمحاولة الانفصال عن الفضاء السلافي واللغة الروسية، وهو ما تعتبره تهديدًا استراتيجيًا لأمنها القومي وهويّتها التاريخية. وهكذا تحوّل الصراع من نزاع حدودي إلى صراع وجودي حول طبيعة الكيان الأوكراني، الذي يسعى إلى بناء استقلال فعلي وتحرّر ثقافي عن موسكو.

في المقابل، تسعى روسيا إلى إعادة دمج أوكرانيا ضمن فضائها الجيوسياسي، باعتبارها جزءًا من الإرث السوفياتي، ومنطقة حيوية للنفوذ الروسي في أوروبا الشرقية.

حرب 2022: من اجتياح محدود إلى صراع شامل

في عام 2022، أعلنت روسيا عن بدء “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا. ورغم تقديمها كـ”ردّ على التهديدات الغربية”، فإن الحرب كانت جزءًا من مشروع أوسع لإعادة رسم خريطة النفوذ في أوروبا. إذ رأى بوتين في أوكرانيا الحلقة المركزية في استعادة مكانة روسيا كقوة عالمية في نظام دولي متعدّد الأقطاب.

لكن الحرب كشفت عن صلابة الإرادة الأوكرانية، ورفضها القاطع للتنازل عن استقلالها أو هويتها الوطنية، ما جعل الصراع أكثر تعقيدًا، وتحول إلى معركة جيوسياسية شاملة تتجاوز مسألة “الأراضي” لتشمل النظام الدولي برمّته.

الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية: التعددية القطبية على حساب الشعوب

من منظور جيوسياسي، تسعى روسيا إلى فرض وجودها كلاعب أساسي في النظام العالمي الجديد، الذي لم يعد أحادي القطب. وأوكرانيا، بموقعها الجغرافي الحساس، تمثل تحديًا استراتيجيًا لطموحات موسكو.

أما من الجانب الاقتصادي، فإن البحر الأسود والأراضي الأوكرانية تمثلان محورًا حيويًا في تجارة الحبوب والطاقة والممرات البحرية، ما جعل من السيطرة على أوكرانيا هدفًا اقتصاديًا وجيوسياسيًا في آنٍ واحد.

ومن هنا، فإن محاولة موسكو إعادة إخضاع أوكرانيا ليست فقط لإضعاف الناتو والاتحاد الأوروبي، بل أيضًا لتحويل أوكرانيا إلى منطقة عازلة أو تابعة، تسهم في استعادة “العمق الاستراتيجي” الروسي.

الاستقلال والأمل في المستقبل

منذ إعلان استقلالها في 16 يوليو 1991، واجهت أوكرانيا تحديات جسيمة، داخلية وخارجية، من بناء مؤسسات الدولة، إلى بلورة هوية وطنية مغايرة للهوية السوفياتية.

لكن منذ ضم القرم عام 2014، ثم الغزو الشامل في 2022، بات الاستقلال الأوكراني والهوية الوطنية مسألة وجودية. فالشعب الأوكراني يخوض اليوم معركة دفاعية عن حقه في تقرير المصير، وعن مستقبل دولته ككيان ديمقراطي مستقل.

ورغم الكلفة الباهظة، تظل ذكرى الاستقلال رمزًا متجددًا للصمود، فيما يبرهن الأوكرانيون للعالم أن السيادة ليست شعارًا، بل قيمة تُدافع عنها حتى الرمق الأخير.

وفي ظل الحرب المستعرة، يبقى الأمل حيًّا في نفوس الأوكرانيين، على أن يتحقق السلام العادل، وتحظى أوكرانيا بمكانتها التي تستحقها في النظام الدولي، كدولة حرّة، مستقلة، ذات سيادة كاملة.

https://hura7.com/?p=62183

 

الأكثر قراءة