الحرة بيروت ـ خاص
شهدت العقود الأربعة الماضية فقدانًا متزايدًا لرطوبة التربة على نطاق عالمي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على دوران كوكب الأرض نفسه، وفقًا لدراسة حديثة نُشرت في مجلة “ساينس”. ويؤكد الباحثون أن هذا التراجع في مخزون المياه الأرضي، الناجم عن الأنشطة البشرية والتغيرات المناخية، قد يكون غير قابل للإصلاح، مع تداعيات بعيدة المدى تمتد إلى مستويات البحار وحركة القطب الشمالي.
تغيرات مقلقة في توزيع المياه عالميًا
تشير الدراسة إلى أن فقدان المياه من اليابسة إلى المحيطات أدى إلى تصحر واسع النطاق في مختلف القارات، لا سيما في شرق ووسط آسيا، ووسط أفريقيا، وأميركا الشمالية والجنوبية. وعند توسيع نطاق التحليل ليشمل الفترة الممتدة حتى عام 2021، لوحظ أن مناطق إضافية مثل أوروبا والولايات المتحدة الشرقية تأثرت بشكل واضح.
وأوضح العلماء أن الاحتباس الحراري كان العامل الأساسي وراء هذا التحول، حيث تسبب في انخفاض كميات المياه المخزنة في التربة والبحيرات والأنهار والثلوج، مما يؤدي إلى اضطرابات عميقة في النظام الهيدرولوجي العالمي. ويؤدي هذا الاستنزاف الحاد إلى زيادة مستوى سطح البحر، الأمر الذي يهدد النظم البيئية والزراعية حول العالم.
تحولات غير قابلة للعكس في مصادر المياه
علّق لويس سامانيجو، الباحث في علم المياه بمركز “يو إف زد هيلمهولتز” لأبحاث البيئة في ألمانيا، والذي لم يشارك في الدراسة ولكنه كتب مقالًا متعلقًا بها في مجلة “ساينس“، قائلًا: “تقدّم هذه الدراسة أدلة قوية على تحولات لا رجعة فيها في مصادر المياه الأرضية تحت تأثير التغيرات المناخية الراهنة”، وأضاف: “القارات تجف تدريجيًا، ومع بعض المناطق، قد يستغرق التعافي من فترات الجفاف عقودًا، بل وقد يكون غير ممكن على الإطلاق في زمننا الحالي”.
تأثيرات ممتدة إلى دوران الأرض والمناخ
أحد الاكتشافات الأكثر إثارة للقلق في الدراسة هو أن فقدان المياه الأرضية يساهم في تغيير طريقة تذبذب الأرض أثناء دورانها حول محورها. وأظهرت البيانات أن هناك صلة وثيقة بين تراجع رطوبة التربة وتغير موقع القطب الشمالي، حيث يؤدي فقدان المياه إلى إعادة توزيع الكتلة على سطح الأرض، مما يؤثر على حركة الدوران.
كما وجد الباحثون أن العلاقة بين مستوى سطح البحر وفقدان المياه الأرضية تتبع نمطًا واضحًا، حيث ارتفع متوسط مستوى سطح البحر بنحو 1 مليمتر لكل 360 جيجا طن من المياه المفقودة من اليابسة. وأشار دونجريول ريو، الباحث في جامعة ملبورن والمشارك في الدراسة، إلى أن هذا الارتفاع غير المتوقع دفع العلماء إلى إعادة تقييم العوامل المساهمة، ليكتشفوا أن فقدان رطوبة التربة هو المحرك الأساسي.
المخاطر المحتملة على الأمن المائي والزراعي
تزامن الانخفاض الحاد في رطوبة التربة مع فترات جفاف شديدة، أبرزها بين عامي 2000 و2003، وكذلك في 2015 و2016 أثناء ظاهرة النينيو القوية. وتوضح البيانات أن هذه الانخفاضات لم تكن مجرد تقلبات قصيرة المدى، بل جزءًا من اتجاه أوسع نحو التصحر المتزايد. وأكد الباحثون أن بعض المناطق، مثل غابات الأمازون، تُظهر علامات جفاف غير مسبوقة، مما يثير مخاوف حول استمرار قدرتها على أداء دورها الحيوي في تنظيم المناخ العالمي.
تراجع مراقبة الموارد المائية: عقبة أمام الحلول
تواجه الجهود المبذولة لرصد وتحليل هذه الظواهر تحديات كبيرة، أبرزها انخفاض التمويل المخصص لمراقبة الموارد المائية وتراجع عدد محطات القياس حول العالم. ويؤكد العلماء أن التصدي لهذه الأزمة يتطلب جهودًا مجتمعية مكثفة، بدلًا من الاعتماد على مجموعات بحثية فردية.
على ضوء هذه النتائج، يشدد الباحثون على ضرورة تبني سياسات مستدامة لإدارة الموارد المائية، بما في ذلك تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، والتحكم في استهلاك المياه الجوفية، وتعزيز تقنيات الحفظ المائي في الزراعة.
يُبرز البحث حجم التغيرات التي أحدثها النشاط البشري في الدورة الهيدرولوجية العالمية، حيث لم يعد بإمكان الأرض استعادة توازنها المائي بسهولة. ومع استمرار الاتجاه الحالي، قد نشهد مزيدًا من التحولات الجذرية في المناخ والجغرافيا، مما يجعل الحاجة إلى تدخل عاجل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.