جريدة الحرة
تُعدّ شبه الجزيرة العربية، وفي قلبها المملكة العربية السعودية، من أكثر المناطق جفافاً على مستوى العالم، حيث تتجاوز درجات الحرارة المتوسطة السنوية 25 درجة مئوية، بينما لا يتعدى معدل الهطول المطري عتبة 10 ملم. وفي ظل غياب الموارد السطحية من أنهار وبحيرات، اضطرت المملكة للاعتماد شبه الكلي على تحلية مياه البحر والسحب المفرط من المياه الجوفية الأحفورية غير المتجددة لتلبية احتياجاتها المتنامية.
غير أن تطورات علمية حديثة قد تعيد تشكيل النظرة إلى الإمكانات المائية في عمق الصحراء. إذ نشر موقع The Academic في الولايات المتحدة الأميركية تقريراً تناول دراسة رائدة أعدّتها الأستاذة الدكتورة مشاعل بنت محمد آل سعود، المتخصصة في الجيومورفولوجيا والهيدرولوجيا في جامعة الملك سعود، وتم نشر نتائجها في مجلة Scientific Reports، حيث استخدمت فيها الصور الفضائية عالية الدقة إضافة إلى الصور الرادارية.
مجاري مائية مطمورة: بين العلم والتاريخ
كشفت الدراسة عن وجود قنوات مائية أثرية مدفونة تحت الكثبان الرملية، تم تحديدها من خلال تحليل صور أقمار اصطناعية عالية الدقة وتقنيات استشعار عن بعد جدّ متقدمة. هذه القنوات، المعروفة علمياً باسم “القنوات الأحفورية” (Paleodrainages)، هي بقايا لأنظمة أنهار وأودية قديمة طُمست مع مرور الزمن، لكنها لا تزال تُظهر بصمتها الجيولوجية عبر تقنيات الاستشعار الحديثة.
وفي حين لا تظهر هذه القنوات على سطح الأرض، إلا أن صور الأقمار الصناعية كشفت أنماطاً تضاريسية تشبه نظم التصريف السطحي، ما دفع الباحثين للتساؤل حول طبيعتها ونشأتها. وقد بينت الدكتورة مشاعل في دراستها أن بعض هذه القنوات لا يزال يؤدي دوراً هيدرولوجياً نشطاً كممرات للمياه الجوفية، ما يفتح الباب أمام احتمالات استراتيجية في مجال الأمن المائي والاستكشاف الهيدروجيولوجي.
التكنولوجيا في خدمة علم الأرض
اعتمد البحث على مصادر فضائية متعددة، من بينها وكالة ناسا الأميركية ووكالة الفضاء اليابانية جاكسا، لتحليل الصور والتضاريس. وسمحت بيانات الرادار، خصوصاً من القمر الصناعي ALOS، باختراق سطح الأرض وكشف القنوات المطمورة، بينما وفّرت نماذج الارتفاع الرقمية المستخرجة من بيانات SRTM تصوراً ثلاثي الأبعاد لمسارات تصريف المياه القديمة.
ولعب التصوير الحراري الفضائي، خصوصاً باستخدام مجس ASTER، دوراً إضافياً في الكشف عن تغيرات حرارية دقيقة تحت السطح، ارتبطت بوجود رطوبة محتملة، ما عزز فرضية وجود مياه جوفية مخزنة في هذه المناطق.
أفق جديد للأمن المائي والحضارات القديمة
تتجاوز أهمية هذا الاكتشاف البعد الجيولوجي والهيدرولوجي، لتطال البعد التاريخي والأنثروبولوجي. فالمناطق التي تم فيها تحديد هذه القنوات قد تكون احتضنت حضارات قديمة ازدهرت في حقب كان فيها المناخ أكثر رطوبة. وبالتالي، فإن هذه النتائج قد تساهم في إعادة رسم خريطة النشاط البشري في شبه الجزيرة العربية عبر العصور.
كما تفتح هذه الدراسة المجال أمام استراتيجيات جديدة لإدارة الموارد المائية في المنطقة، تستند إلى العلم والتقنيات المتقدمة بدلاً من المعالجات الطارئة والتقليدية. وهو ما يعكس أهمية الاستثمار في البحث العلمي المتقدم كمدخل أساس لتحقيق أمن مائي مستدام في المستقبل.
أسهم التوظيف المتقدم لتقنيات الاستشعار عن بعد، ولا سيما صور الأقمار الاصطناعية، في إحداث طفرة نوعية في دراسة الأنظمة الهيدرولوجية المدفونة تحت سطح الصحراء في شبه الجزيرة العربية. وقد تمكنت الدكتورة آل سعود من خلال هذه الأدوات من رصد وتوثيق مجموعة من القنوات القديمة، تمتد بعضها على مسافات تصل إلى مئات الكيلومترات. وقد أكدت المسوحات الحقلية، التي استكملت بها دراستها، وجود رواسب غرينية متنوعة داخل هذه القنوات، كالحصى والصلصال، ما يدل على أنها كانت تنقل في الماضي كميات كبيرة من المياه، في سياق مناخي أكثر رطوبة بكثير من الظروف السائدة حالياً.
ويمثل هذا الدمج بين التكنولوجيا الفضائية والمناهج الهيدرولوجية التقليدية تحولاً جوهرياً في إدارة الموارد المائية، إذ أضحى بالإمكان تحديد مواقع المياه الجوفية بدقة أعلى، وتقليل الاعتماد على المسوحات الميدانية المكلفة والزمنية. وتُنبئ هذه المنهجية الواعدة بإمكانيات متقدمة في الدراسات المستقبلية لتحسين دقة النماذج التنبؤية وفهم خصائص الخزانات الجوفية بصورة أكثر تفصيلاً.
تصنيف الأنظمة المائية القديمة: أربعة أنماط رئيسية
في تحليلها الميداني والرقمي، صنّفت الدكتورة مشاعل آل سعود الأنظمة المكتشفة إلى أربعة أنماط رئيسية: نماذج تشبه الدلتا تشير إلى تصريف نهري باتجاه مسطحات مائية واسعة؛ وأنماط ذات أنظمة تصريف غير اعتيادية تعكس تغيرات هيدرولوجية مفاجئة؛ إضافة إلى شبكات مائية مرتبطة ببحيرات قديمة؛ ومسارات مائية تظهر تغيرات حادة في اتجاهها نتيجة التفاعل مع تضاريس متباينة. وتتميز هذه النظم، على اختلافها، بخصائص جيولوجية مشتركة مثل وجود رواسب عالية المسامية تتيح حركة المياه داخلها بسهولة، ووقوعها غالباً على أعماق سطحية ضحلة، ما يسهل عمليات التنقيب والاستخدام.
وتكمن أهمية هذا التصنيف في أنه يتيح مقاربة علمية أدق لفهم خصائص المياه الجوفية المرتبطة بها، خاصة وأن الانحدار الطفيف لهذه القنوات القديمة يساهم في إبطاء تدفق المياه ومنع تبخرها أو تسربها السريع، ما يعزز فرص الاستفادة منها كمورد مائي مستدام في بيئة تعاني من شح مزمن.
نحو فهم أعمق لتحولات شبه الجزيرة العربية
إنّ فرضية وجود أنهار قديمة في قلب الصحراء العربية ليست بالحديثة، إذ توثّق الأدلة الجيولوجية والتاريخية فترات مناخية رطبة، عرفت خلالها المنطقة نشاطاً مائياً ملحوظاً. ويعود بعض هذا النشاط، بحسب آراء علمية متباينة، إما إلى طوفان العصر الهولوسيني أو إلى فترات من منتصف وأواخر العصر الرباعي. وتستند دراسة الدكتورة آل سعود إلى هذه المعطيات، لكنها تضيف إليها بعداً جديداً من خلال الجمع المنهجي بين تحليل صور الأقمار الاصطناعية والمعاينة الميدانية، ما يمنح الدراسة دقةً وأفقاً أوسع في استقراء التطورات المناخية والمائية في تاريخ المملكة.
ولا تتوقف أهمية هذا الاكتشاف عند حدوده العلمية فحسب، بل يتعداه إلى مقاربة أنثروبولوجية مثيرة، إذ يُرجّح أن هذه الأنهار والقنوات لعبت دوراً محورياً في تسهيل حركات الهجرة البشرية الأولى عبر الصحراء. وقد أسهم وجود مصادر مائية دائمة أو موسمية في تمكين الإنسان القديم من الاستقرار المؤقت أو العبور الآمن في مناطق تُعدّ اليوم من أكثر بقاع الأرض جفافاً، ما يفتح الباب أمام مقاربات جديدة في فهم العلاقة بين تغير المناخ والتكيف البشري – وهو أحد المحاور البارزة في الدراسات البيئية المعاصرة.
القنوات المائية القديمة في عمق الصحراء
تشير الدراسات الحديثة إلى أن دمج تقنيات المسح الجيوفيزيائي مع عمليات الحفر الاستكشافي قد يشكل أداة حاسمة لفهم البنية المائية الجوفية في المملكة العربية السعودية، ولا سيما في ما يتعلق بتحديد جودة وكميات المياه المختزنة داخل شبكات القنوات القديمة المدفونة تحت الرمال. وإذا ما أثبتت التحاليل الميدانية صلاحية هذه المخزونات للاستخدام، فإنها قد تشكل رافداً استراتيجياً يُكمل جهود تحلية المياه، ويوفر مصدراً بديلاً أكثر استدامة وكفاءة من حيث الكلفة التشغيلية.
إعادة تشكيل سياسات إدارة المياه
يمثل الكشف عن مجاري الأنهار القديمة – التي كانت في عصور مضت جارية ونشطة – تحولاً محتملاً في منهجيات إدارة المياه على المستوى الوطني. فمع تصاعد الطلب على المياه العذبة، يتزايد الإلحاح في البحث عن مصادر بديلة تُخفف الضغط عن الموارد التقليدية. وإذا ما أثبتت الدراسات الجيولوجية وجود كميات قابلة للاستخراج من المياه الجوفية في هذه المجاري، فإن ذلك قد يشكل حلاً طويل الأمد يخدم قطاعات حيوية كالتنمية الزراعية، والصناعة، والنمو الحضري.
لكن أهمية هذا الاكتشاف لا تقتصر على الجانب المائي فحسب، بل تمتد لتشمل بُعداً علمياً يرتبط بفهم العمليات الجيومورفولوجية التي شكلت تضاريس شبه الجزيرة. إذ أن رسم خريطة دقيقة لهذه القنوات الغائرة في باطن الأرض يُمكن أن يعزز من قدرة الباحثين على التنبؤ بمواقع وجود موارد طبيعية أخرى، ويُساهم في التخطيط المستدام لاستخدامات الأراضي، لا سيما في البيئات الصحراوية.
الزراعة الصحراوية: من التحدي إلى الإمكانية
إحدى أبرز التطبيقات العملية لهذا الكشف الجيولوجي تتمثل في دعم مشاريع الزراعة الصحراوية. إذ أن توفير مصدر مائي غير تقليدي ومستدام قد يفتح آفاقًا جديدة لتطوير سلاسل إنتاج غذائي محلية، تحد من الاعتماد على الاستيراد، وتُحسن الأمن الغذائي على المدى البعيد.
ورغم الطابع الواعد لهذه القنوات القديمة، إلا أن المسار نحو استثمارها كمصدر مائي استراتيجي لا يزال يتطلب المزيد من الأبحاث الميدانية المتقدمة. فالمسوحات الجيوفيزيائية الدقيقة، وعمليات الحفر العميق، وتحليل البيانات الهيدرولوجية، كلها خطوات ضرورية لتقييم مدى الجدوى الفنية والاقتصادية لهذا المورد غير التقليدي.
نحو رؤية جديدة لمستقبل المياه
إن احتمال وجود خزانات مياه جوفية مخفية تحت الصحراء يعيد النظر في المفهوم السائد حول الندرة المطلقة للمياه في المملكة. ففي حال تم التحقق من وجود أنهار جوفية “منسية”، فإنها قد تمثل طوق نجاة للأجيال القادمة. ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم: هل يمكن أن يكون مفتاح أمن المملكة المائي مختبئاً في طبقاتها الجيولوجية العميقة؟
الإجابة لا تزال قيد التشكل، لكنها مرهونة بمدى ما يُمكن أن يقدمه العلم من أدوات ومعطيات. وفي هذا السياق، تمثل دراسة الدكتورة آل سعود مساهمة علمية رائدة قد لا تقتصر انعكاساتها على المملكة وحدها، بل قد تُلهم نماذج مشابهة في مناطق قاحلة أخرى تواجه تحديات بيئية مماثلة.
فالطريق نحو الأمن المائي ليس طريقاً مفروشاً بالحلول السريعة، بل هو مسار طويل يتطلب إبداعاً في الرؤية، واستثماراً في البحث، وإرادة سياسية لترجمة الاكتشافات إلى سياسات. ومع كل خطوة علمية جديدة، يتجدد الأمل في مستقبل أكثر أمناً واستقراراً.