جريدة الحرة
خاص ـ تزداد الانتقادات لمواقف الحكومة الألمانية في السياسة الخارجية، ومع ذلك يتمسّك كل من المستشار فريدريش ميرتس ووزير الخارجية يوهان فاديبول بخطّهما. لكن مع أزمة واحدة على وجه الخصوص، يزداد الضغط بشدة.
لا تزال منظمات الإغاثة تدق ناقوس الخطر، إذ لا يزال الوضع الإنساني في قطاع غزة مأساويًا، ولا تزال المساعدات الإنسانية غير كافية لمن هم في أمسّ الحاجة إليها. وجاء في بيان لمنظمة “يونيسف” في 25 يوليو 2025: “الأطفال في قطاع غزة يتضورون جوعًا، وسوء التغذية الحاد ينتشر بين الأطفال بوتيرة أسرع مما يمكن أن تصل إليهم المساعدات”. وأضاف البيان: “العالم يقف متفرجًا بلا حراك. هذه الوفيات لا تُحتمل، وكان من الممكن تجنبها.”
هل تفعل ألمانيا والدول الغربية ما يكفي لإنهاء حرب غزة؟، أم يجب على الحكومة الألمانية أن تمارس ضغوطًا سياسية أكبر على الحكومة الإسرائيلية لكي تعيد التفكير في استراتيجيتها العسكرية؟. لا يوجد إجماع على هذه الأسئلة، لا داخل الحكومة الألمانية، ولا ضمن التحالف الغربي. لكن الحرب في الشرق الأوسط ليست الموضوع الوحيد الذي يشعل الحكومات في ألمانيا وأوروبا. ففي الوقت ذاته، يتعامل الدبلوماسيون ووزراء الخارجية مع تهديدات الرسوم الجمركية الأمريكية، ومع حرب أوكرانيا، ومع قضايا الأمن الأوروبي بشكل عام.
في ظل هذه الأحداث يقف وزير الخارجية يوهان فاديبول، الذي واجه في بداية توليه المنصب انتقادات من جهات مختلفة. وقد تبيّن أن هذه الحكومة تصطدم أحيانًا بين الطموحات الخارجية والواقع الأمني الدولي والأوروبي.
بداية غير سهلة لفاديبول وميرتس
يظهر بوضوح أن المشاكل والأزمات الدولية الكبرى لا حلول سهلة لها. فتعقيد العديد من الأزمات لا ينسجم غالبًا مع التبسيط السياسي المصاحب للحملات الانتخابية. وقد تبيّن ذلك لفاديبول كوزير للخارجية، إذ أصبح كلّ تصريح له ذا وزن كبير، وأي تعبير خاطئ أو متناقض يمكن أن يثير موجات من الغضب. وكانت وزيرة الخارجية السابقة أنالينا بيربوك قد واجهت هذه الصعوبات، ولم تكن بداية فاديبول أسهل منها. فقد وجد نفسه كثيرًا ما عالقًا بين جبهات سياسية متعارضة.
الحرب في الشرق الأوسط
تكمن أكبر التحديات للحكومة الألمانية ووزير خارجيتها في الحرب على غزة. فقد أسفرت العمليات العسكرية الإسرائيلية عن أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، ولا تزال المساعدات الإنسانية إلى غزة غير كافية، وفقًا للمنظمات الإغاثية. ورغم أن الهجوم الذي شنّته حماس في السابع من أكتوبر 2023 منح إسرائيل حق الدفاع عن النفس، وهو أمر لا خلاف عليه في الحكومة الألمانية، إلا أن النهج الذي يتبعه نتنياهو بات محل انتقاد.
عندما انتقد ميرتس وفاديبول الحرب الإسرائيلية في نهاية مايو 2025، وأعرب وزير الخارجية عن رفضه لـ”تضامن قسري” مع إسرائيل، تعرّض فاديبول لانتقادات شديدة من داخل حزبه، وخصوصًا من حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU). لكنه يواجه الآن انتقادات من الاتجاه المعاكس، بسبب عدم وجود عواقب ملموسة على إسرائيل رغم تحذيرات الحكومة الألمانية.
إسرائيل تواصل حربها دون تغيير، فيما تستمر ألمانيا في توريد الأسلحة للجيش الإسرائيلي، مما أثار غضبًا متزايدًا في الداخل. ومنذ ذلك الحين، أصدر فاديبول إشارات متناقضة ينتقد العمليات العسكرية الإسرائيلية، لكنه لا يفرض عقوبات. وهو توازن صعب بين “السبب الوجودي” لأمن إسرائيل و”القانون الدولي”. وقد صرّح بأن ألمانيا تقف بثبات إلى جانب إسرائيل، وأكّد أن بلاده “ليست محايدة” ولا يمكنها أن تكون “وسيطًا”.
احتجاج داخل الوزارة
بدأت الأصوات المنتقدة تتصاعد داخل وزارة الخارجية، فقد طالبت مجموعة من الدبلوماسيين والدبلوماسيات داخليًا بتغيير النهج الألماني تجاه إسرائيل. وذكرت تقارير أن هناك اتهامات للحكومة بازدواجية المعايير، ويعتبرون أنه لا يجوز التعامل مع الحكومة الإسرائيلية بشكل مختلف عن روسيا إذا انتهكت القانون الدولي. وصرّح مصدر في وزارة الخارجية لموقع قائلًا: “جميع الزملاء والزميلات مدعوون للمشاركة بآرائهم في عملية اتخاذ القرار الداخلي، وقد أكّد الوزير فاديبول ذلك بوضوح خلال اجتماع العاملين في الثالث من يوليو 2025”.
يلتزم فاديبول الحذر، وتولّى المتحدث باسم الحكومة، شتيفان كورنيليوس، مهمة الدفاع عن الموقف الحكومي. وكانت فرنسا قد أعلنت في يوليو 2025 رغبتها في الاعتراف بدولة فلسطين. وأوضح كورنيليوس في بيان أن: “الاعتراف بدولة فلسطينية ما زال، بالنسبة للحكومة الألمانية، خطوة من الخطوات الأخيرة على طريق تنفيذ حل الدولتين”. وأضاف: “أمن إسرائيل له أولوية قصوى لدى الحكومة الألمانية”.
وقّعت غالبية دول الاتحاد الأوروبي على رسالة تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. أما ألمانيا، فتعرّضت لانتقادات متزايدة بسبب امتناعها عن التوقيع. والآن، تطالب كتلة الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) في البرلمان الألماني، وهي شريك في الحكومة، بالتوقيع بأثر رجعي. تزداد عزلة ميرتس وفاديبول في هذا الملف، ما دفع بالحكومة الألمانية، على الأرجح، للموافقة على بيان مشترك مع بريطانيا وفرنسا، يدعو إلى وقف إطلاق نار ويضمّ انتقادًا واضحًا لإسرائيل، لكن من غير الواضح ما إذا كان لهذا البيان أي تبعات سياسية حقيقية.
حرب أوكرانيا
تواجه السياسة الخارجية الألمانية تحديًا هائلًا في ما يخصّ حرب أوكرانيا. إذ يجب على الدول الغربية المساندة لأوكرانيا أن تعوّض عن غياب شحنات الأسلحة الأمريكية. وحتى إن قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تقديم المزيد من المساعدات، فإن التمويل سيكون من مهمة الأوروبيين، وفي مقدّمتهم ألمانيا، التي لا تمرّ بوضع مالي مريح بسبب ميزانيتها ووضعها الاقتصادي.
ميرتس وفاديبول تمسّكا بمسار الدعم لأوكرانيا، لكن في نقطة واحدة فُرض عليهما التراجع. حين كانا في المعارضة، طالبت أحزاب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي (CDU/CSU) بتسليم صواريخ “توروس” إلى أوكرانيا فورًا، وقدّما طلبات إلى البوندستاغ وهاجما حكومة “إشارة المرور”. لكن بعد مرور فترة على تشكيل الحكومة الجديدة، لم تتسلّم أوكرانيا صواريخ “توروس” بعد.
التعامل مع ترامب
نجاح التعامل مع الأزمات في أوكرانيا والشرق الأوسط مرتبط إلى حد كبير بالدور الأمريكي، إذ تفتقر أوروبا إلى أدوات النفوذ الكافية، خصوصًا في المسائل الأمنية. ولهذا، كان الهدف في بداية عهد ميرتس وفاديبول هو إقامة علاقة قوية مع إدارة ترامب. لكن إذا فشل هذا الهدف، فستواجه ألمانيا، كما باقي دول الاتحاد الأوروبي، خطر فرض رسوم جمركية أمريكية بنسبة 30% اعتبارًا من الأول من أغسطس 2025 وهو ما قد ينعكس سلبًا على الاقتصاد الألماني.
غير أن العلاقة مع حكومة ترامب ستكون دائمًا تحديًا دقيقًا. فمن ناحية، هناك مصالح اقتصادية وأمنية كبرى تعتمد على حسن العلاقة، خاصة وأن ترامب يمتلك قوة تأثير كبيرة. ومن ناحية أخرى، لا يجوز للحكومة الألمانية أن تبدو خاضعة تمامًا، وإلا فقد تخسر دعمًا داخليًا كبيرًا. ولأن الخط الفاصل بين الدفاع عن المصالح الألمانية والتحلي بالثقة بالنفس يختلف بحسب زاوية النظر، فإن المواجهات مع إدارة ترامب ستكون على الأرجح حتمية بالنسبة لميرتس وفاديبول.


