د. خالد زغريت
جريدة الحرة ـ بيروت
عادت قضية الأويغور إلى واجهة الصراع الأميركي الصيني، لكن ليس من زاوية حقوق الإنسان أو اضطهاد الأقليات، بل من زاوية استثمارها السياسي ضمن صراعٍ يبدو سياسيًّا في مظهره، اقتصاديًّا في جوهره. وتكمن قابلية توظيف هذه القضية في الخصوصية التاريخية للأويغور، وبخاصة في ما يتعلق بتكوينهم الجهادي. ويقتضي ذلك التوقف سريعًا عند تاريخ نشوء هذه الظاهرة وتطورها.
تعود جذور المجتمعات الأويغورية إلى القرن السادس الميلادي، عندما هاجرت قبائل تركية من منغوليا واستقرت في تركستان. وكان أول تواصل بين المسلمين والأويغور في عهد الخليفة العباسي الأول “أبي العباس السفاح”، إذ أرسل القائد تميم بن بحر إلى سلطان الأويغور “بايانجور” لدعوته إلى الإسلام. غير أن الأخير فضّل التحالف مع الصين لمحاربة المسلمين في معركة “طلاس”.
بدأ بعض الأويغور باعتناق الإسلام في عهد السلطان “ساتوق بُغرا خان” الذي أسلم عام 920، واتخذ اسم “عبد الكريم”، وقضى نحو أربعة عقود في نشر الدين بين شعبه. وفي أواخر القرن السادس عشر، تبنّى الأويغور التصوف، لا سيما الطريقة النقشبندية، بعد سقوط خانات السعيدية على يد “الخواجات”، وهم قادة روحيون من أبرزهم “آفاق خوجا” حفيد شيوخ سمرقند، الذي استولى على كاشغر، ولا يزال ضريحه مزارًا لأبناء المنطقة حتى اليوم.
في عام 1750، أسقطت قبائل “تشينغ” الصينية حكم الخواجات وضمت أراضيهم إلى الإمبراطورية الصينية. ومنذ ذلك الحين، سعى الأويغور مرارًا للانفكاك عن الحكم الصيني، لكنهم أخفقوا، حتى بعد انهيار حكم أسرة تشينغ عام 1911. وبعد إعلان “ماو تسي تونغ” تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، تم إدراج إقليم تركستان الشرقية كـ”مقاطعة صينية”، رغم أن سكانه الأويغور لم يتوقفوا عن المطالبة بالانفصال أو بالحكم الذاتي الإسلامي، ما قوبل دوماً بقمع شديد.
واجهت الصين هذه الدعوات بقسوة بالغة، فأنشأت مجموعات مسلحة موالية لها من داخل الإقليم لمواجهة الحركات الانفصالية، واتبعت أساليب قمعية شديدة جعلت من سجلها في الإقليم مثالًا ساطعًا على الاضطهاد الجماعي. ولم تنجح الأمم المتحدة سوى في التعبير عن “القلق العميق” من ممارسات بكين، لا سيما حملات الاعتقال الجماعية التي طالت مئات الآلاف، والدعوة لإطلاق سراحهم من “معسكرات إعادة التأهيل”، التي باتت أحد أبرز رموز القمع الصيني الحديث.
وثّقت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان احتجاز ما يقارب مليون أويغوري في ما سمّته الصين “مراكز مكافحة التطرف”. وأشارت تقارير أممية إلى أن السلطات الصينية بدأت عام 2018 باعتقال كل من لديه أقارب في 26 دولة، أو من أجرى اتصالات خارجية باستخدام تطبيقات مثل “واتساب”. كما كشفت التقارير عن ممارسات صادمة بحق النساء، منها إجبارهن على تناول حبوب منع الحمل، وإخضاعهن لعمليات تعقيم قسري بهدف تقليص نسل الأويغور.
وفي عام 2019، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تحقيقًا استقصائيًا كشف أن الحكومة الصينية عمدت إلى فصل الأطفال الأويغور عن عائلاتهم، واحتجازهم في معسكرات تهدف إلى محو الهوية الثقافية والدينية، وخلق جيل جديد من الأويغور مفصول بالكامل عن لغتهم الأصلية وتقاليدهم وإسلامهم.
أمام هذا الواقع المأساوي، لجأ آلاف الشباب الأويغور إلى الهجرة، واختار كثيرون منهم تركيا باعتبارها “الأم القومية” للأويغور. هناك، بدأت مؤشرات مقلقة على إعادة توظيف هذه القضية دوليًا. فبعض الشبان اندمجوا في التنظيمات الجهادية في سوريا، لا سيما في ظل اتهامات لتركيا بأنها سهّلت انتقالهم ودعمت تنظيمهم، في إطار حساباتها الإقليمية.
هكذا، تحوّلت الجماعات الجهادية الأويغورية إلى ورقة سياسية أميركية تُستخدم للضغط على الصين وتهديد أمنها القومي. واستثمرت واشنطن في تغذية هذه الظاهرة إعلاميًا، مروّجة لفكرة أن الأويغور الجهاديين سيكونون “حصان طروادة” في مواجهة بكين، وأنهم قادرون على إشعال اضطرابات داخلية تزعزع استقرار الصين وتربك صعودها.
وفي ظل اندلاع الثورة السورية، رأت الولايات المتحدة فرصة سانحة لتوظيف وجود المقاتلين الأويغور على الأراضي السورية، فدعت إلى فصلهم عن باقي الفصائل، وإنشاء معسكرات خاصة بهم، لضمان بقائهم كتجمّع منفصل يمكن استثماره لاحقًا في الضغط على الصين، وتمديد عمر التوتر الأميركي–الصيني عبر صراع “فاتر”، قد يتخذ لاحقًا طابع الحرب الباردة أو الساخنة.


