الحرة بيروت / د. بشير عصمت*
منذ تأسيس لبنان الحديث، بقيت البلديات تُصوَّر كإدارات خدماتية تُعنى بالنفايات والمجارير وتنظيم البناء. لكنها، في جوهرها، تشكّل أول نقطة تماس بين الدولة والمجتمع، وأولى خلايا السياسة الفعلية. وفي بلد باتت فيه الدولة المركزية معطّلة، تُستعاد السياسة من خلال البلديات، أو لا تُستعاد على الإطلاق.
الانتخابات البلدية المقبلة، إذا جرت، ليست مجرّد مناسبة دورية. إنها مفترق تاريخي بين بقاء النظام الذي دمّر الحياة العامة، وبين احتمال ولادة تيار سياسي مختلف، أكثر شفافية، أكثر عقلانية، وأكثر تمثيلاً للناس الحقيقيين، لا للمصالح المقنّعة.
تم تأجيل الانتخابات البلدية لسنوات تحت ذرائع متعددة، من بينها التداخل مع الانتخابات النيابية، ثم الضائقة المالية، ثم الحرب الإسرائيلية. التأجيلات لم تكن طارئة، بل جزء من سلوك ممنهج يعكس تهرّب السلطة من المواجهة مع المجتمع حين تفقد القدرة على التحكم بالنتائج.
لا استعدادات حقيقية اليوم، لا هيئة إشراف، لا ميزانية مؤمّنة، ولا نيّة فعلية لتأمين شروط النزاهة. ما يجري هو تطبيع خطير مع الفراغ، حيث تتحوّل الانتخابات إلى فرصة تُمنح حين تضمن النتيجة، وتُؤجل حين يُخشى منها.

البلديات اليوم، في معظمها، عاجزة أو مُعطّلة. تُدار بالتكليف من قِبل المحافظين، وتعيش على ما تبقّى من موازنات رمزية، فيما تزداد حاجة الناس إلى خدمات محلية مستدامة. في ظل ضعف الدولة، تصبح البلديات المرجع الأخير للعيش الجماعي، أو الحصن الأخير قبل انهيار الاجتماع الأهلي.
لكن السلطة، بدل أن تهيئ الأرضية لنظام بلدي عصري، تسعى إلى إعادة هندسة النظام المحلي بما يحمي مصالحها عبر أدوات الطائفية، والوصاية السياسية، وشبكات المصالح المعقدة.
المعركة البلدية ليست مع أحزاب بعينها، ولا مع أي تيار بذاته، بل ضدّ بنية سلطوية تقف خلفها شبكة مصالح مالية وسياسية متشابكة. المصارف التي نهبت أموال الناس لا تزال محمية بقوانين، وبدروع أمنية، وبحكومات تشارك فيها أطراف ترفع لواء التغيير لفظاً، وتُشارك في إدارة الانهيار فعلاً.
السلاح الخارج عن الدولة لا يزال يرسم حدود القرار، يمنع المساءلة، ويكّبل السياسات العامة، ويعطّل قيام أي مؤسسات حقيقية. فالتغيير يبدأ حين تتوقف القوى عن ازدواجية الخطاب، وتطالب بوضوح بردّ القرار إلى الدولة، دون مناورة.
في السنوات الماضية، استُخدم الإعلام كأداة قمع ناعمة. بدل أن يكون سلطة رقابة، تحوّل إلى غرفة عمليات للدفاع عن المصارف، وتبييض صورة التحالفات الفاسدة. غير أن شيطنة قوى التغيير لم تنجح، لأن الناس المصابة والشاهدة والضحية، ميّزت بين النقد والتحريض، وبين الموقف والمأجور ورشوة بعض المفاتيح الأبواق، المتاح لهم الهواء للسيطرة على العقول أجدى من فتح المكاتب والرزم في كل مناسبة.
لقد انكشفت القنوات، سقطت السرديات، وتحوّل الإعلام إلى مرآة لفساد من يموّله. أما الإعلام البديل، رغم محدوديته، فصار أكثر تأثيراً لأنه متحرر من حسابات السوق السياسي.
تسعى بعض القوى لتعديل قانون الانتخابات البلدية في بيروت، دون شك لا بدّ من دوائر بلدية. لكنّ الحقيقة أن الخروج على التقليد بالمناصفة سيضع الجميع أمام حائط مسدود، وتحويل الانتخابات إلى امتحان عسير لكل القوى باستثناء من استعجل الانتخاب قبل أن يفقد مقوّمات سيطرته وليظهر أنه الممثل الوحيد لجماعة اقتادها إلى مذبحة حتمية، ولن ينجو العهد من هذا الكمين.
بيروت، مدينة التعدد، تتحوّل إلى نموذج في لعبة أرقام، تزيد في حجج الفدراليين وربما تفتح مجال جدل جديد يؤخر الحديث في مصير الودائع والصابرين وفي مصير السلاح إلى نقاش طائفي من نوع آخر كلياً.
حيث النبض يتكوّن
في بيروت، الحماسة لا تزال خافتة. لكن تحت الرماد، غضب ناضج يبحث عن لغة وممثلين. المدينة التي كانت بلديتها منذ ما قبل الحرب عنواناً للشبهات، باتت بحاجة إلى مجلس يعكس سكانها لا زعماءها، يرعى الناس لا المشاريع.
في صيدا، وطرابلس، تبدو قوى التغيير أكثر تجذراً من أي وقت مضى: في صيدا، الفرصة متاحة لمن يبني على الحضور المدني التاريخي. وفي طرابلس، رغم المعوقات، هناك جمهور بدأ يميّز بين العائلة والمدينة، بين الزعامة والتمثيل.

تيار التغيير: بين النضج والطفولة السياسية
ما يُرفَع باسم التغيير هو المقاوم الوحيد للمنظومة. لكن في السنوات الماضية، سقط بعض من دخل المعركة السياسية البلدية أو النيابية من باب الذات، لا من باب المشروع. رأينا أفراداً يعتقدون أن مجرّد وصولهم يكفي لحل مشكلات البلد، دون فهم للمؤسسات، أو لمعادلات الحكم.
ورأينا فئات بنت اعتراضها على الغضب فقط، دون وعي للتمييز بين الرمادي والأسود، بين الممكن والمطلوب. هذا الغضب، وإن كان مشروعاً، لا يكفي لصناعة بديل. المطلوب وعي سياسي ناضج، يفكك البنى لا الأشخاص، يبني شبكات لا منصات، ويؤمن أن السياسة فعل جماعي لا إعلان فردي.
كل القوى تعلم أن من يربح البلدية اليوم يحدد شكل المعركة النيابية غداً. لذلك، فإن الأحزاب تتعامل مع البلديات كمختبرات لإعادة التموضع، ومقاييس للنفوذ.
لكن ما هومعروف أيضاً، أن الاختراق الحقيقي يبدأ من أصغر بلدية، من أكثر حيّ مهمش، ومن أقل لائحة تمويلاً وأكثرها نزاهة. هناك تبدأ معركة استرداد السياسة.
لنحمي مدننا من التسلط والتفاهة
ليس المطلوب أن نعِظ الناس. المطلوب أن نكون إلى جانبهم. أن نسمّي الأمور بأسمائها. أن نرفض المعادلات المغشوشة، ونبني على ما تحقق من وعي شعبي. آن الأوان أن ننتخب بلديات لا تُنهب فيها الأموال، ولا تُباع فيها الصفقات.
2025 فرصة لا تُفوّت، لا لردّ الصفعة فقط، بل لصناعة التحوّل. من بيروت إلى صيدا فطرابلس وصور وبعلبك والنبطية: لنحوّل صناديق البلديات من مرايا للتوازن الطائفي إلى منصات لحكم رشيد.
ليس المطلوب أن نحكم باسم التغيير بل تغيير طريقة الحكم نفسها.
*متخصص في التاريخ الاجتماعي
لتصفّح العدد كاملاً: https://hura7.com/?p=49848