الثلاثاء, أبريل 29, 2025
21.2 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

د.محمد العرب ـ الحدود التي خانت الجغرافيا وطريق الدم إلى داعش

جريدة الحرة

بقلم د.محمد العرب

لم يكن زحف الإرهابيين المهاجرين إلى جسد داعش في العراق وسوريا مجرد صدفة أمنية أو غفلة دولية، بل كان نتيجة جراح مفتوحة في الجغرافيا، تفجّرت منها السيوف السوداء كما لو أن الخراب وجد طريقه الممهّد نحو الجحيم…!

لقد كانت الحدود التركية مع إقليم كردستان العراق، ومع شمال شرق سوريا تزخر بمسالك الموت حيث تفككت خطوط السيادة، وتهتكت جدران الرقابة، وأُضيئت شعلة الخراب من خرم إبرة لم يحاول أحد إغلاقه او لم يرغب أحد في اغلاقه…!

بين عامي 2012 و2015، ومع اشتداد الأحداث السورية، بدأت أسماء بعينها تلمع داخل تقارير الاستخبارات الغربية. أبرزها معبر (تل أبيض) الذي تحوّل إلى الرئة التي تنفست منها داعش، ليس فقط مقاتلين أجانب جاؤوا من جهات العالم الاربعة ينحدرون من 64 جنسية، بل عبره تدفقت الأسلحة والمال وحتى الإمدادات الطبية. بحسب تقرير صادر عن لجنة التحقيق في جرائم الحرب التابعة للأمم المتحدة (2014)، فإن المعابر غير الرسمية على الحدود التركية كانت شريان الحياة لداعش، لا سيما في تل أبيض، جرابلس، وأجزاء من الريف الحلبي، حيث سُجّل عبور عشرات القوافل دون عرقلة تُذكر.

لكن الأخطر كان في طبيعة هذه المعابر. لم تكن مجرد ثقوب في الجدار الجغرافي، بل كانت في كثير من الأحيان مدفوعة بتسهيلات غضّ الطرف، إن لم تكن بتنسيق خفي. ففي شهادة أدلى بها نائب وزير الداخلية الألماني أمام البرلمان في 2015، أشار إلى عبور ما يزيد عن 720 مواطناً ألمانياً إلى سوريا عبر الحدود التركية خلال عام واحد فقط، أغلبهم للانضمام إلى تنظيم داعش، بل إن مركز الدراسات البريطاني ICSR في تقريره الموسوم بـ(الشبكات العابرة للحدود) كشف أن تركيا كانت طريقاً لما لا يقل عن 5000 مقاتل أوروبي إلى الأراضي السورية، وأن غالبية هؤلاء دخلوا عبر المعابر غير الشرعية الواقعة في مناطق مثل الدرباسية، عين العرب، ورأس العين.

لكن لم تكن سوريا وحدها المتلقية لهذا النزيف. فإقليم كردستان العراق، الذي يمتد حدوده مع تركيا لأكثر من 300 كم، شهد اختراقاً صامتاً وممنهجاً. معبر (سحيلا) غير الرسمي، الواقع غرب معبر إبراهيم الخليل الرسمي، استُخدم لتمرير خلايا نائمة من داعش إلى مناطق مثل سنجار وتلعفر، بحسب ما كشفه تقرير سري لوزارة الداخلية العراقية في أواخر 2016. التقرير ذاته تحدث عن تورّط مهربين معروفين في منطقة زاخو بتوفير مسارات آمنة لمقاتلين أجانب لقاء مبالغ تصل إلى 10 آلاف دولار لكل مقاتل…

الأمر لم يقتصر على الأفراد، بل شمل التجارة والمعدات. في ديسمبر 2015، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تحقيقاً مطولاً يشير إلى أن تنظيم داعش كان يهرّب النفط من حقول دير الزور والرقّة عبر شاحنات تمر عبر المعابر غير الرسمية إلى الأراضي التركية، حيث كانت تُباع بأسعار رخيصة في السوق السوداء. وكان الطريق الأشهر عبر بلدة (صوران) الحدودية، والتي، وفقاً لتحقيق أجرته قناة سكاي نيوز البريطانية، كانت تشهد يومياً عبور أكثر من 100 شاحنة محمّلة بالنفط الخام.

وحين بدأت تركيا عملياتها العسكرية في سوريا تحت ذريعة  مكافحة الإرهاب، كانت الخريطة الميدانية تحمل علامات تساؤل أكثر من الإجابة. كيف تسلّلت آلاف البنادق عبر جبال زاخو وسفوح سنجار؟ من كان يغض الطرف عن تلك الحركة البشرية التي دخلت بحُجج السياحة لتجد نفسها في قلب الرقة؟ بل كيف أمكن لمقاتلين من 64 جنسية أن يجتازوا المطارات التركية دون مساءلة، ثم يظهروا في تسجيلات داعش بعد أيام وهم يرتدون أحزمة ناسفة في الموصل أو البوكمال؟

إنها شبكة من المنافذ الملعونة، لا يمكن فهم صعود داعش دون فك شيفراتها. ففي شهادته أمام الكونغرس الأمريكي، قال الجنرال المتقاعد مايكل فلين، الرئيس السابق لوكالة استخبارات الدفاع DIA: كانت لدينا معلومات مؤكدة أن تركيا لم تكن فقط ممراً بل منطقة عبور نشطة لداعش، وقد حاولنا مراراً إيصال هذه المخاوف إلى القيادة السياسية دون جدوى ، أما السيناتور جون ماكين، فأكثر صراحة عندما قال: لو كانت تركيا جادة في إغلاق حدودها أمام داعش، لما عبر كل هذا الخراب من أراضيها…؟

ومع كل هذه الشواهد، لم تُفتح بعد ملفات هذه المنافذ في محاكمات دولية. لم يُسأل أحد: من سلّم المفاتيح للخراب؟ من قال للموت: تفضل من هذا الطريق؟ من أمّن عبور الهمجية بتواطؤ الصمت وبلادة الضمير؟

ما جرى عبر تلك المنافذ لم يكن تهريباً عابراً، بل كان صفقة سوداء بين من أراد تفتيت المنطقة، ومن أراد ابتلاعها. ومن المؤسف أن تلك الثغرات لا تزال مفتوحة في الجغرافيا، وفي التاريخ، وفي العدالة الغائبة.

هل كانت المنافذ غير الشرعية سبباً في صعود داعش؟ ليست فقط سبباً، بل كانت رحماً ولدت فيه الوحشية، وشارعاً معبّداً بدم الأبرياء، عبَرته الجثث، وعادت منه العتمة.

إنها المنافذ الملعونة… التي دخل منها الخراب، ولم يخرج بعد ولا اعتفد أنه سيخرج قريباً…!

https://hura7.com/?p=48717

الأكثر قراءة