كارين عبد النور
جريدة الحرة ـ بيروت
لم تكن “الحرّة” صحيفةً كغيرها، تُؤسَّس على عجل، وتُموَّل بالظنّ، وتُدار بالهواجس والصفقات. بل وُلدت كمشروع يطمح إلى إعادة الصحافة إلى أصلها الشريف. مشروع نبت من صميم الحاجة، ونشأ في زمنٍ ضاقت فيه الصحافة بصدورها، وانكمشت رسالتها بين فكَّي المال والارتهان. ترعرعت “الحرّة” لا في حضن داعم، ولا على مائدة مموّل، بل من عزم نفرٍ آمن أن الكلمة، إذا صَدقت، تكفي لأن تُحدث فرقاً.
أطلّت “الحرّة” في لحظةٍ خُيِّل إلينا أنها انطلاقة فسحة وطنية تُنصت للكلمة الحرة وتستقيم على نهجها. لكن سرعان ما تبيّن أن هذه اللحظة كانت مجرّد وهْمٍ لم يلبث أن تهاوى، فانكفأ الأمل وتعثر المسار.
منذ عددها الأول الإلكتروني ، تشبثت “الحرّة” بمبدئها: أن تكون مستقلة بحق، لا امتداداً لتيارٍ ولا بوقاً لممول. لم تطرق باب مصرف، ولم ترتهن لأجندة. تجنّبت موائد التملق، وابتعدت عن بازار الولاءات، وسلكت طريقاً وعراً، يعرف سالكوه أنهم أقلّية، لكنهم، برغم قِلّتهم، أكثر إيماناً بدور الكلمة في تصحيح المعادلات.
وفي أربعة عشر عدداً، كتبت “الحرّة” لنفسها سيرةً صغيرة في حجمها، كبيرة في أثرها. لم يكن في جعبتها ما يُغري: لا ميزانية، ولا عقود، ولا امتيازات. بل كان لها فقط ثُلّة من الكُتّاب والمهنيين حملوا الشعلة في العتمة، وكتبوا لا طلباً لمقابل، بل التزاماً بما آمنوا به، وكأنهم جنود مجهولون في معركة الكلمة النبيلة. هؤلاء هم سرّ “الحرّة” الحقيقي، وصنّاع حضورها، وهم وحدهم مَن منحوها ما يكفي من وهجٍ لتكون، ولو لفترة وجيزة، صوتاً لا يُشبه سواه.
كنا نأمل أن نجد في ساحتنا السيادية المستقلة من يُعلي هذه التجربة، من يتكفّل برعايتها لا استملاكها، ويصونها لا يصادرها. لكنّ الطريق بقي معتماً. بعضهم أحجم خشيةً من اضطراب الأحوال، وبعضهم تلكّأ انتظاراً لـ”هيكليةٍ مكتملة”، بينما الحقيقة واحدة: المشروع الحر لا يجد من يرعاه لأنه ببساطة… لا يُوظَّف.
وحرصاً على ألا نستهلك نفوس الكتّاب الذين رفعوا هذا المشروع على أكتافهم، وصوناً لكرامة الجهد والتطوّع، نعلن تعليق الإصدار الأسبوعي لـ”الحرّة”، لا خنوعاً ولا تراجعاً، بل وقفةَ تأمّلٍ تُمهّد لعودةٍ أكثر صلابة، حين يتوفّر دعمٌ لا يُساوم على المبادئ، ولا يُبدّل الوجهة.
سيبقى الموقع الإلكتروني حيّاً، حاضناً لمقالات كُتّابنا وقرّائنا الأوفياء، ومنبراً مفتوحاً لكل من لم يتعب من قول الحقيقة. أمّا نحن، فلن نغادر الميدان، بل نعيد ترتيب الصفوف، ونُحصّن السطور، ونصوغ العودة التي تليق بالمشروع الذي ابتدأ حرّاً، ويأبى إلا أن يبقى كذلك.
لمن كتب دون مقابل، وحرّر دون تذمّر، وسهر دون وعد، نقول: أنتم معنى هذه التجربة، ورمز كرامتها. ولكل من قرأ، آمن، وشارك، نعدكم أن “الحرّة” الإصدار الأسبوعي لن تغيب طويلاً، لأن لبنان، ما دام فيه من يحلم بدولة، يحتاج إلى صحافةٍ لا تحلم بأقلّ من الحقيقة.


