الحرة بيروت ـ خاص
في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، أصبح التحول نحو مصادر الطاقة النظيفة ضرورة لا خياراً. إلا أن هذا التحول يواجه عقبات عدة، أبرزها استمرار الحكومات في دعم الوقود الأحفوري، ما يقلل من الحوافز الاقتصادية لاعتماد البدائل منخفضة الكربون. تُقدَّر قيمة هذا الدعم بمبالغ ضخمة تتراوح بين مئات المليارات إلى تريليونات الدولارات، وفقاً لتقديرات مختلفة. فما حجم هذا الدعم؟ وما هي آثاره الاقتصادية والبيئية؟ وهل يمكن إعادة توجيه هذه الأموال لدعم الطاقة المستدامة؟
حجم دعم الوقود الأحفوري
يأخذ دعم الوقود الأحفوري أشكالاً متعددة، أبرزها الدعم الصريح والضمني. يعرف الدعم الصريح بالأموال التي تقدمها الحكومات لخفض تكاليف إنتاج أو استهلاك الوقود الأحفوري، وهو ما يجعل أسعاره أكثر انخفاضاً للمستهلكين. ويمكن أن يكون هذا الدعم على شكل إعانات مباشرة لمنتجي الوقود أو تخفيضات في أسعار الطاقة للمستهلكين، مثل دعم أسعار الكهرباء أو البنزين.
في العام 2022، بلغت قيمة الإعانات العالمية الصريحة للوقود الأحفوري نحو 1.5 تريليون دولار، أي ما يعادل 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ما يعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي لدول كبرى مثل روسيا أو أستراليا. ووجّهت معظم هذه الإعانات، بنسبة 80%، لدعم المستهلكين، بينما ذهب الجزء المتبقي لدعم الإنتاج.
العوامل المؤثرة على الدعم
شهد العام 2022 ارتفاعاً غير مسبوق في دعم الوقود الأحفوري، نتيجة أزمة الطاقة العالمية التي تفاقمت بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. وهو ما أدّى إلى تضاعف إعانات الاستهلاك مقارنة بالعام 2021، حيث ارتفعت أسعار الغاز بنسبة تصل إلى 400%، ما دفع بالعديد من الأسر إلى ما يُعرف بـ”فقر الطاقة”، وهو عدم القدرة على تحمّل تكاليف التدفئة والكهرباء الأساسية.
لتخفيف آثار هذه الأزمة، لجأت الحكومات إلى آليات دعم مثل وضع سقف للأسعار وتحمّل الفرق بين السعر الحقيقي والسعر الذي يدفعه المستهلك. وعلى الرغم من أن هذه السياسات كانت تهدف إلى حماية الأسر والشركات، فإنها في نهاية المطاف عززت الاعتماد على الوقود الأحفوري.
أهمية البدائل المنخفضة الكربون
إن استمرار دعم الوقود الأحفوري يعيق التحول نحو الطاقة النظيفة، لكن البدائل أصبحت أرخص وأكثر جدوى من الناحية الاقتصادية. فقد شهدت تقنيات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والمركبات الكهربائية انخفاضاً ملحوظاً في التكلفة، ما قد يقلل الحاجة إلى الإعانات الأحفورية بمرور الوقت. وفي بعض الدول، نجحت الحكومات في خفض دعم الوقود الأحفوري تدريجياً، رغم ما يواجهه هذا القرار من مقاومة شعبية.
الفوارق بين الدول في تقديم الدعم
يختلف حجم الدعم المقدم للوقود الأحفوري من دولة إلى أخرى. فالبلدان المنتجة للنفط، مثل المملكة العربية السعودية وتركمانستان وليبيا والجزائر، تقدم دعماً للفرد الواحد يتجاوز 500 دولار، وقد يصل إلى أكثر من 1000 دولار، ما يمثل أكثر من 10% من ناتجها المحلي الإجمالي. في المقابل، فإن الدول الأوروبية وأميركا الشمالية وشرق آسيا تقدم دعماً أقل، يتراوح بين 100 دولار أو أقل للفرد الواحد. أما في أفريقيا وجنوب آسيا، فإن الدعم المقدم يكاد يكون معدوماً، وغالباً لا يتجاوز 20 دولاراً للفرد.
التكلفة الخفية للوقود الأحفوري
إلى جانب الدعم الصريح، هناك دعم ضمني يشمل التكاليف الاجتماعية والبيئية الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري. ووفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي، فإن التكلفة الإجمالية لهذا الدعم بلغت 7 تريليونات دولار في العام 2022، أي ما يعادل 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ويتضمن هذا الرقم الأضرار الناجمة عن تلوث الهواء والتغير المناخي، إضافة إلى التكاليف غير المباشرة مثل الحوادث المرورية والازدحام.
وتظهر التقديرات أن أكثر من 60% من هذه التكاليف تعود إلى الأضرار البيئية والصحية، حيث يؤدي تلوث الهواء الناتج عن حرق الوقود الأحفوري إلى وفاة ملايين الأشخاص سنوياً، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن التغيرات المناخية المتزايدة.
فهل يمكن الاستفادة من هذه الأموال؟ هناك دعوات متزايدة لإعادة توجيه الأموال المخصصة لدعم الوقود الأحفوري نحو تقنيات الطاقة المتجددة. ومع ذلك، فإن المشكلة تكمن في أن معظم هذه التكاليف ليست إنفاقاً حكومياً مباشراً يمكن تحويله بسهولة، بل هي تكاليف اجتماعية تتطلب سياسات جديدة مثل فرض ضرائب على الكربون والتلوث.
إن دعم الوقود الأحفوري يمثل معضلة اقتصادية وبيئية معقدة. فمن ناحية، يخفف هذا الدعم من أعباء تكاليف الطاقة على المواطنين، لا سيما في الدول النامية. ومن ناحية أخرى، فهو يعزز استمرار الاعتماد على مصادر الطاقة الملوثة ويعيق التحول إلى البدائل المستدامة. إن التحرك نحو اقتصاد منخفض الكربون يتطلب سياسات أكثر جرأة، مثل فرض ضرائب على الانبعاثات الكربونية وتوجيه الاستثمارات نحو الطاقات المتجددة. فهل ستتمكن الحكومات من تجاوز العقبات السياسية والاقتصادية لتحقيق هذا التحول الحتمي؟