بقلم: الدكتور عبد الرؤوف سنّو، مؤرخ وباحث في الشؤون اللبنانية
في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، قرّر حزب الله إسناد غزة عبر جنوب لبنان، من دون سؤال الحكومة اللبنانية عن قرار يسلبها سلطتها وسيادتها على البلاد لمصلحة قوة خارجية هي حماس، ومن يقف وراءها. وكان تنظيمَي حماس والجهاد الإسلامي قد اخترقا في اليوم السابق من الإسناد الجدار الإسرائيلي العازل بين غزة وإسرائيل، وقاما بعملية نوعية غير مدروسة عُرفت بـ”طوفان الأقصى”.
وبعد أن تناولنا في الجزئين الأول والثاني تبعية حزب الله لإيران وتغليفه ذلك بشعار تحرير القدس، كما توازن القوى وقدرات كل من إسرائيل من جهة وحزب الله وإيران من جهة أخرى، نتطرّق في هذا الجزء الثالث إلى وظيفة حزب الله الإيرانية ألا وهي إنهاء الدولة اللبنانية.
لم يُعِر حزب الله الضعف الاستراتيجي والعسكري والاستخباراتي لإيران أهمية، وسار وراءها كرأس حربة لقوى الممانعة في قلب العالم العربي. وقام بغسل “أدمغة” اللبنانيين وأتباعه للانتقال من الانتمائية اللبنانية إلى إسلاموية يروّجها الولي الفقيه. وأعلن عنها في أول بيان له في شباط/فبراير العام 1985. ولم يتولّد لديه مرّة واحدة شعور بالولاء للبنان، أو لأمنه القومي ومصالحه. فطاعة الولي الفقيه ملزمة ولا يمكن مناقشتها أو معارضتها أبداً.
وقد حُدّدت وظيفته بإلحاق لبنان بولاية الفقيه، عبر تحويل نفسه إلى رقم صعب في المعادلة السياسية اللبنانية. والعمل على إنهاء مؤسسات الدولة وسيادتها على أراضيها وعلى شعبها، فضلاً عن تخريب العلاقات بين طوائف لبنان، وبين أتباع المذاهب في الطوائف. حتى أنه ضحّى بمصالح لبنان السياسية والاقتصادية والمالية والقومية بضرب علاقاته بالعالم العربي ومع الخارج.
فقابل محبة بلدان الخليج للبنان ودعمه بسخاء، بالشتائم والسباب. وكان وراء دعم نظام دموي في سورية، وتأمين الأوكسيجين له من اقتصاد لبنان وشعبه منذ العام 2020 (النفط والقمح والأدوية والعملة الصعبة)، حتى أنه كان وراء تخزين الأمونيوم في مرفأ بيروت وتفجيره من قِبل إسرائيل بدليل تعطيله التحقيق العدلي فيه. وقد كشف لقمان سليم جانباً من خفايا التفجير، ودفع حياته ثمناً.
إن ترسيم النفط والغاز بين لبنان وإسرائيل في العام 2022 بضغط من حزب الله على الحكومة اللبنانية العرجاء، وبوساطة أميركية مشبوهة وتواطؤ إيراني، على أساس الخط 23، وليس الخط 29 الموضوع من قبل الجيش اللبناني، أفاد العدو الإسرائيلي، وأضر بمستقبل لبنان المنهار، اقتصاداً ومجتمعاً.
وقد أدّت ثلاثية الحزب “شعب وجيش ومقاومة” إلى إنهاء وظيفة الدولة اللبنانية وتعطيل دور جيشها الوطني، وإفراغ دستورها من أي معنى، وقلبت كل الموازين لمصلحة الحزب بعد اغتيال رفيق الحريري، الذي تلاه اجتياح الحزب بيروت (اليوم المجيد كما أطلق عليه)، واتفاق الدوحة في أيار العام 2008. وعندما سئل نصر الله تكراراً عن تغييب حزبه الدولة اللبنانية وجيشها، كان يجيب: “أقيموا الدولة ونسلّم سلاحنا”. فكيف تقوم دولة لبنانية ضعيفة ومخترقة من قِبَله وإلى جانبها دويلته القوية، سياسة عسكراً ومالية؟ أليس الأجدى أن ينزع سلاحه أولاً ويحلّ دولته.
وفي مقابل غض الطرف عن سلاحه، وفق الثلاثية، قدّم الحزب الطعوم والرشاوى المالية والوظيفية والنيابية والوزارية والرئاسية لسياسيين لبنانيين وأحزاب فاسدين، وهو يدرك شهواتهم وتعطشهم إلى المال والسلطة. وتحوّل الجيش اللبناني من قوة لحماية الوطن على الحدود إلى قوة أمنية في شوارع لبنان تلهث في زواريبها. وعمل على إفلاس لبنان، ووقف وراء نحر الاقتصاد الوطني لحساب اقتصاده “الإسلامي” الخاص. وأقام المصارف غير الشرعية (القرض الحسن)، ومؤسساته الاجتماعية وغيرها.
وراج في مناطق سيطرته تصنيع الكبتاغون وتصديره إلى الخارج، ووقف وراء تهريب العملة والمواد المدعومة من الدولة اللبنانية إلى سورية، وكان الحزب وراء استقبال اللاجئين السوريين في لبنان. حتى أن الوحدة 121 في الحزب، التي كانت تتلقى أوامرها من إيران، ومباشرة من نصر الله، كانت وراء معظم الاغتيالات لمناضلين وزعماء لبنانيين وطنيين، بدءاً من رفيق الحريري إلى لقمان سليم، فيما ضرب الحزب بعرض الحائط قرار “المحكمة الخاصة بلبنان” في العام 2020، في شأن اتهام عناصر من حزبه باغتيال الحريري. ليس هذا فحسب، بل وقف ضد القضاء اللبناني والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى تهديد وفيق صفا، رئيس وحدة الاتصال والتنسيق في حزب الله، للمحقق العدلي طارق البيطار في قلب قصر العدل في بيروت.
وفيما شرذم الحزب الطوائف، وضرب حليفه التيار الوطني الحر بالقوات اللبنانية وبحزب الكتائب وغيرهم، اخترق كل الطوائف الأخرى، وجعل من سعد الحريري، رئيس حكومات لبنان لمرات عدة، وزعيم تيار المستقبل السني، ألعوبة بيده منذ “التسوية الرئاسية بين عون وجعجع والحريري في العام 2016.” حتى أصبح على المرشح الماروني لرئاسة الجمهورية استجداء الكرسي منه.
وقد خشيت حركة “أمل” من أن يبتلعها الحزب، وهو قادر على ذلك، فقبلت بتقية نبيه بري ودهائه ودبلوماسيته، بأن تؤدي دور “شريكه المدلل”، أو “الأخ الأكبر” كما جاء على لسان الشيخ قاسم. وفي العامين 2019 و2020، أجهض الحزب بدعم من الحركة “الانتفاضة اللبنانية” باستخدام القوة، خشية نجاحها ووصول قوى غير خاضعة له إلى الحكم، تقطع طريق تواصله مع إيران عبر حدود لبنان مع سورية. لذا، كان بقاء بشار الأسد في السلطة، وانهيار الدولة اللبنانية والإمساك ببقاياها، مشروعاً استراتيجياً مطلوباً إيرانياً.