بقلم: الدكتور عبد الرؤوف سنّو، مؤرخ وباحث في الشؤون اللبنانية
في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، قرّر حزب الله إسناد غزة عبر جنوب لبنان، من دون سؤال الحكومة اللبنانية عن قرار يسلبها سلطتها وسيادتها على البلاد لمصلحة قوة خارجية هي حماس، ومن يقف وراءها. وكان تنظيمَي حماس والجهاد الإسلامي قد اخترقا في اليوم السابق من الإسناد الجدار الإسرائيلي العازل بين غزة وإسرائيل، وقاما بعملية نوعية غير مدروسة عُرفت بـ”طوفان الأقصى”.
وبعد أن تناولنا في الجزء الأول تبعية حزب الله لإيران وتغليفه ذلك بشعار تحرير القدس، نتطرّق في هذا الجزء إلى توازن القوى وقدرات كل من إسرائيل من جهة وحزب الله وإيران من جهة أخرى.
لا يمكن لعاقل أن يدخل حرباً مدمّرة ومصيرية ضدّ إسرائيل، وهو يجهل توازن القوى العسكري والسياسي في منطقة الشرق الأوسط، ومواقف الدول الإقليمية والدولية، وبخاصة ضمانات الولايات المتحدة لسلامة إسرائيل والدفاع عنها. إن ما يقف خلف الإنجازات الإسرائيلية في إيران وسورية وغزة واليمن ولبنان، هو الإعداد العسكري الجيد والتقنية المتفوقة والذكاء الاصطناعي والتراكم الاستخباراتي بصمت منذ سنوات، ووضع الخطط وتدعيم التماسك المجتمعي الداخلي. فهل سأل حزب الله نفسه عن قدراته في مقابل إسرائيل، وهل صدّق بالفعل أن إيران شريكته وظهيره للقضاء عليها، ولديها القدرات والنوايا لتدمير إسرائيل، وقد تركته يجابهها في العام 2006، حيث قبل بالقرار 1701 فيما كان على وشك الانهيار قبل بالقرار؟
صحيح أن الحزب يملك ترسانة من الأسلحة الإيرانية تقدّر بمئة ألف صاروخ مختلفة العيارات والمدى، ونجح، كما يدّعي، في طلعاته الاستخباراتية فوق شمال إسرائيل، إلّا أن هذه القوات تتموّل وتتسلح من إيران، وتدرّب على أيدي حرسها الثوري، فيما تقدّر ميزانيته السنوية بمليار دولار. وقد ضخّمت إيران قوتها وتلك للحزب إلى درجة حولت الأخير إلى “عملاق للترهيب” في لبنان الهش، وفي العالم العربي المتوجس. لكن يبدو أن الحزب، من خلال المعطيات التي توافرت خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024، قد أدرك أن قدراته لا تحاكي قدرات إسرائيل العسكرية والتكنولوجية والاستخباراتية والدعم الدولي لها. وبدلاً من التحول إلى شن عمليات أمنية في عمق إسرائيل أو في الخارج، ما ينقذ لبنان من خسائر بشرية ومادية يومية باهظة، اتكل الحزب على الله “ولم يعقل”، وعلى صواريخ خامنئي التي ستدمر إسرائيل، وفق دعاية الطاقم السياسي والعسكري الإيراني، ولم يتعلم درساً من حرب العام 2006، ولا من أثمان انخراطه في الحرب السورية لمصلحة إيران بهدف إبقاء نظام الأسد في الحكم.
في كل حرب تُخاض، يكون للدول هدف استراتيجي تسعى لتحقيقه من خلال النشاط العسكري والسياسي والدبلوماسي. صحيح أن الصواريخ التي يطلقها حزب الله على إسرائيل، تزعجها بالفعل، لكنها لا تضعفها استراتيجياً، فيما يبدو هدف الحزب بإسناد غزة واهياً ويفتقد إلى الاستراتيجية. إن هجماته الصاروخية على شمال إسرائيل تعطّل الحياة فيها؛ فتضطر الحكومة إلى نقل السكان إلى أماكن أخرى في الداخل. وفيما لإسرائيل قدرات اقتصادية وتكنولوجية وصناعية تجعلها قادرة على التعافي بسرعة من أي خسائر تسببها عمليتي الطوفان والإسناد، في المقابل فإن غزة ولبنان لن يعاد بناؤهما إلا بمساعدات وهبات من الخارج.
إن ميزانية إسرائيل هي 160 مليار دولار، في المقابل، 50 مليار دولار فقط هي ميزانية إيران في أحسن الأحوال، وفق سعر السوق. أما عدد أفراد الجيش الإيراني فهو 610 آلاف جندي، والاحتياط 350 ألفاً. ويتألف شعب إسرائيل من عشرة ملايين نسمة، وجيشها النظامي من 170 ألف جندي والاحتياط من 465 ألفاً. وتتفوق إيران في أعداد شعبها، وفي القوات البرية (دبابات، مدفعية مدرعات)، وفي القوة البحرية، وبكمية الصواريخ من عيارات ومدى مختلفة. وتسعى طهران بشكل حثيث للانتهاء من تخصيب اليورانيوم لإنتاج قنبلتها النووية. وقد أدّى التخويف الإيراني للأنظمة العربية من جهة، وتطبيع بعض العرب مع تل أبيب من جهة أخرى، إلى وقوف إيران وحدها مع أذرعها في مقابل إسرائيل.
إن إسرائيل تتفوق على إيران ودول المنطقة في أربعة مجالات استراتيجية: قوتها الجوية الضاربة التي تمتلك طائرات أف من أنواع 15 و16 و35س؛ الطيارين الكفوئين؛ قدراتها الاستخباراتية الفائقة؛ ونظام الدفاع الجوي متعدد المستويات الذي أضافت عليه الولايات منظومة “ثاد”. كذلك، تعمل إسرائيل على إنتاج نظام دفاع جوي بالليزر لاعتراض الطائرات المسيرة. أخيراً والأهم، استراتيجياً وحيوياً، امتلاكها السلاح النووي. ولإسرائيل شركاء أقوياء كالولايات المتحدة التي تستخدم كل ترسانتها العسكرية للحفاظ على سلامتها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ألم يكن الحزب يعلم بذراع إسرائيل الطويلة في الشرق الأوسط، منذ حرب العام 1982 والعام 2006، واغتيال عباس الموسوي وعماد مغنية، وقاسم سليماني بتنسيق أميركي – إسرائيلي وغيرهم، واستهداف أسلحته “الإيرانية” المارة عبر سورية إلى لبنان؟ ولا يبدو أنه كان في حسبانه – وقد عاش في وهم النصر والتربّع على قمة السياسات في المنطقة منذ العام 2006 والتدخلات العسكرية في سورية منذ العام 2012 التي غلفها باضطهاد الشيعة في بلدة القصير، وحماية مقر السيدة زينب في ضاحية دمشق – أن توالي الاستهدافات الإسرائيلية على لبنان، جنوباً وضاحية وبقاعاً وبيروت، وصولاً إلى اغتيال فؤاد شكر وإبراهيم قبيسي وحسن نصر الله وصفي الدين، وفوقهم العشرات من قيادات الصف الأول، لم تجعل الحزب يتعقل ويتوقف عن مساندة غزة، ولا تجاه ما يلوح في الأفق عن القرارين 1559 و1701 حيث تصرّ إسرائيل على تنفيذ الأول. وكان الحزب يعطّل مفاعيلهما منذ العامين 2004/2006. وكان اغتيال إسرائيل معظم قادة حماس والجهاد الإسلامي في غزة وخارجها وآخرهم يحيى السنوار، قد سبق أو تزامن مع اغتيالاتها في لبنان.
إن استهداف العمق الإيراني من قبل إسرائيل، واليمن وسورية ولبنان، خلال أكثر من عقدين، يجعلنا نضيء على تطبيق تل أبيب ضد إيران وأذرعها في المنطقة، نظرية الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان المشتقة من مقولة تلمودية جعلتها أجهزة الأمن الإسرائيلية نبراساً لها: “إنهض واقتل أولاً”، أي أقتل عدوك قبل أن يأتي إليك. وكان البرنامج النووي الصاروخي الإيراني، وعلماء النووي الإيراني والعسكريين، وإيصال الدعم العسكري الإيراني إلى لبنان عبر سورية، في صلب تلك المقولة، ويأتي بعدهم قادة حماس وحزب الله كتابعين. وشملت المقولة، عدا الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية على إيران، وبخاصة الأميركية منها، القيام بعمليات تخريبية استباقية في الجمهورية الإسلامية منذ العام 2010، عبر عملاء في الداخل، وتعطيل نقل الأجهزة والمواد الخام من الخارج لمفاعلها، فضلاً عن عمليات سرية ضد منشآت نووية واغتيال شخصيات علمية وعسكرية تعمل في البرنامج النووي والصاروخي. وتستخدم إسرائيل في عملياتها تقنية الذكاء الاصطناعي التي تجهلها إيران على ما يبدو. وفي قمة المستهدفين السياسيين في إيران، إسماعيل هنية في تموز 2024 الذي جرحت تصفيته النظام الإيراني كله.
وقد أعمى انتماء الحزب إلى نظام الملالي واستخدام لغة العنتريات والهوبرات عن إدراك قدرة إسرائيل لاختراق إيران من قبل العملاء، فضلاً عن استخدام التقنيات والاستخبارات. فظلت إيران تلهث وراء مشاريعها في المنطقة، فضلاً عن وقوفها بالشعارات فقط وراء طوفان الأقصى وجبهة الإسناد اللذين بقيا من دون إسناد. فخسرت غزة قرابة خمسين ألفاً من شعبها ومئة ألف من الجرحى، فيما خسر لبنان، حتى قبل عملية البيجرز نحو 900 قتيل وأكثر من ألفين من الجرحى. وتصل خسائر غزة إلى 30 مليار دولار في البنية التحتية، فيما بلغت خسائر لبنان في الممتلكات والأرزاق قرابة ثلاث مليارات دولار، حتى نيسان/أبريل 2024. وخلال شهري أيلول وتشرين الأول/سبتمبر وأكتوبر، خسر لبنان قرابة 2,500 قتيل، وأكثر من عشرة آلاف جريح، عدا التدمير الذي لحق بالقرى والبلدات وبالضاحية الجنوبية والبقاع، وغيرها من المناطق اللبنانية.
وعندما فشل هجوم إيران الصاروخي – الباليستي والمسيراتي على إسرائيل في نيسان/أبريل المنصرم ومطلع تشرين الأول/أكتوبر الجاري، لم يراجع الحزب قدرات إسرائيل، ودفاع أميركا وبريطانيا عنها وتأثيره في توازن القوى، وظل على تبعيته الأيديولوجية العمياء لإيران التي بقيت تنتظر ردّاً إسرائيلياً مرتقباً بقلق (حدث الردّ الإسرائيلي يوم الجمعة 25 تشرين الأول/أكتوبر 2024)، وبتصريحات رنانة لقوة ردها المضاد على الكيان الصهيوني. ولم يحاول الحزب استشراف أسباب وهن إيران، ولا تلاعبها به كحرس ثوري يقوم بدور وظيفي محدد له، كما سنرى في الجزء الثالث. وكانت الأوامر تصل إليه مباشرة عبر السفارة الإيرانية في بيروت، أو من خلال زيارات لقادة الحرس الثوري والمسؤولين الإيرانيين إلى بيروت من دون فيزا أو حتى “دستور”.