السبت, ديسمبر 14, 2024
0.7 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

الدكتور عبد الرؤوف سنّو ـ جردة حساب لحزب الله: آن الأوان للعودة إلى حضن لبنان (الجزء الرابع)

بقلم: الدكتور عبد الرؤوف سنّو، مؤرخ وباحث في الشؤون اللبنانية

في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، قرّر حزب الله إسناد غزة عبر جنوب لبنان، من دون سؤال الحكومة اللبنانية عن قرار يسلبها سلطتها وسيادتها على البلاد لمصلحة قوة خارجية هي حماس، ومن يقف وراءها. وكان تنظيمَي حماس والجهاد الإسلامي قد اخترقا في اليوم السابق من الإسناد الجدار الإسرائيلي العازل بين غزة وإسرائيل، وقاما بعملية نوعية غير مدروسة عُرفت بـ”طوفان الأقصى”.

وبعد أن تناولنا في الأجزاء السابقة تبعية حزب الله لإيران وتغليفه ذلك بشعار تحرير القدس، كما توازن القوى وقدرات كل من إسرائيل من جهة وحزب الله وإيران من جهة أخرى، إضافة إلى وظيفة حزب الله الإيرانية ألا وهي إنهاء الدولة اللبنانية. نتطرّق في هذا الجزء الرابع إلى إمكانية عودة الحزب إلى أحضان لبنان.

وهنا نسأل: كيف يمكن لحزب الله الصمود في وجه التفوق والذكاء الاصطناعي الإسرائيلي والتقنيات وفائض القوى العسكرية والاستخباراتية السالفة الذكر، فيما هو مخترق وتتناقص أعداد قياداته يوماً بعد يوم؟ ففي آخر تصريح للحزب بتاريخ 12 تشرين الأول/أكتوبر 2024، جاء إنها “شِدّة وتزول”. وبرأينا، أنها ليست كذلك، بل كارثة إنسانية ووطنية وخراب للبنان المفلس والضعيف والمنقسم، وسوف تستمر تداعياتها لأجيال وتهدّد ما تبقى من الدولة اللبنانية وشعبها. وبالتأكيد هي من صنع أياديه، من دون أن يعترف أو يتأثر.

لماذا لا يسأل الحزب الولي الفقيه عن مساندته له، وقد اختبأ خامنئي في مكان ما خشية أن تغتاله يد إسرائيل، وقد فعلت إيران الشيء نفسه بغزة؟ هل أعاق الولي الفقيه أو تصدى لاجتياح إسرائيل لغزة وتدميرها حجراً وبشراً ومحاصرتها وإغلاق منافذها؟ هل أطلق صاروخاً واحداً على تل أبيب من أجلها؟ اكتفى بدعمها بالتصريحات المتلفزة وتأكيد حتمية انتصارها، من دون أن يقدّم أي مساندة عملية بكل المقاييس والمعايير. وقد فعل الشيء نفسه مع لبنان حيث أوهم بيئته وأنصاره بأن الحرب ضدّ إسرائيل ستكون نزهة (بيت عنكبوت).

إن إطلاق إيران صواريخها على إسرائيل في 13 و14 نيسان/أبريل المنصرم (الوعد الصادق) كان ردّ فعل على الغارة الإسرائيلية على قنصليتها في دمشق لحفظ ماء الوجه، وليس مساندة للمقاومة الغزاوية أو الإسلامية في لبنان، فيما لم تتسبب صواريخه في أضرار لإسرائيل، باستثناء صاروخ واحد أو اثنين سقطا على النقب. وفي العام 2006، فعل الشيء نفسه، وترك لبنان يتدمر، مكتفياً بتشجيع حزب الله على الاستمرار في الحرب.

إن قيام أميركا وبريطانيا والأردن باعتراض الصواريخ الإيرانية التي استهدفت إسرائيل، كانت رسالة إلى الحزب لم يفهمها، على ما يبدو، قبل البيجر وبعده، حول عدم السماح بخرق توازن القوى في المنطقة. ولم يفهم الحزب مغزى تزويد أميركا إسرائيل بقنابل ذكية من عيار الـ2.000 رطل لضرب غزة وبيئته في ضاحية بيروت الجنوبية، وهي على أبواب الانتخابات الرئاسية، وهو للتخلص من تنظيمين تعتبرهما واشنطن إرهابيين مدعومين من إيران. وترفع الولايات المتحدة شعار “محاربة الإرهاب” ومعها أوروبا والعرب، والتصدي لداعش بعد القضاء على قيادات القاعدة.

والواقع أن الاسلام السياسي ظهر قبل انهيار المشروع القومي العربي بين العامين 1945 و1970، بقيادة الإخوان المسلمين الذين حاولوا أسلمة الدولة والمجتمع المصري. وأتى بعدهم السلفيون الجهاديون، أولاً القاعدة ثم داعش، وفتح الإسلام وجند الإسلام في لبنان. وعلى خط مواز، ظهر حزب الله الشيعي الأصولي بتبعيته المطلقة العمياء للولي الفقيه الذي يقدسه وفق دستوره، وكان وراء توريط اللبنانيين والدولة اللبنانية وأهله وبيئته الحاضنة في صراعات إيران في المنطقة.

ومنذ تأسيسه كحرس ثوري إيراني، جاء في دستور حزب الله أن لبنان الكبير مخلوق أسسه الاستعمار لمسيحييه. وبالرغم من أصوليته وولائه لإيران، فعند تحرير جنوب لبنان في العام 2000، حقق الحزب أهم نصر في تاريخ الأمة العربية، وأصبح أمينه العام حسن نصر الله رمزاً للنضال الوطني لدى الجماهير العربية. لكن التحرير جعل الحزب ينكفئ نحو الداخل في لبنان بسلاحه، وسرعان ما كشف أمره لخدمة مشروع إيران في المنطقة.

ومن المؤكد أن الحزب بقراره دعم غزة وإدخال حماس والجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية في مشروع الإسناد من جنوب لبنان، وقبل ذلك تدخّله في سورية واليمن، يرتكب غلطة اليسار والمسلمين بإدخال المقاومة الفلسطينية إلى لبنان بعد اتفاق القاهرة الذي كان أحد أسباب اندلاع الحرب الداخلية في العام 1975. كذلك الحال، لم يتعظ بالاحتلال السوري للبنان، وقد رحّب به سياسيون من مختلف الطوائف وخصوصاً المسلمين، وعاشوا ثلاثة عقود تحت حكم المخابرات السورية، وسط ممانعة البطريرك صفير وقوى مسيحية انضمذ إليها الحريري وجنبلاط بعد العام 2002. وما لبث الحزب أن ورث النفوذ السوري في لبنان منذ العام 2005. وعندما اتهمت المحكمة الخاصة بالرئيس الحريري أفراداً في الحزب بالمسؤولية عن اغتيال الحريري، تبيّن أن اغتيال الأخير كان مخططاً للحلول مكان السوري.

وبعد كل أفعال الحزب منذ تحرير الجنوب، والتجارب المريرة التي مرت على البلاد، نسأل من بقي من قيادات الحزب على قيد الحياة: ما هي إيجابيات إسناد طوفان الأقصى للبنان منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما هو مردودها على لبنان حتى اليوم؟ فبالإضافة إلى قتلى الحزب والمدنيين منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومنذ أيلول/سبتمبر 2024، وقد سبق الإشارة إليهم، فهناك مليون وأربعمائة ألف نازح من الجنوب والمناطق المستهدفة والضاحية الجنوبية في بيروت وطرابلس وجبل لبنان والأطراف، من ضمنهم قرابة نصف مليون لبناني ولاجئ سوري فرّوا إلى سورية.

واللبنانيون يحتضنون أهلهم النازحين من دون جميلة، وقد فتحوا بيوتهم ومدارسهم ومؤسساتهم لهم بطيب خاطر؛ لكن هناك منهم في شوارع بيروت وفي المناطق. يطالب الحزب النازحين بالصمود، فيما لا يقدّم لهم سوى بيانات عسكرية بالتصدي للعدو وإطلاق الصواريخ التي لا تحقق أي هدف استراتيجي يجبر العدو على وقف النار في غزة أو في لبنان. ونادراً ما تصل صواريخه إلى تل أبيب. الضاحية الجنوبية دُمّرت تقريباً. قياداتكم تختبئ بين المدنيين من غارات إسرائيل، ويسقط قائد من الحزب هنا وهناك وفي مقابله عشرات ومئات القتلى المدنيين والجرحى الأبرياء في مساكنهم. إيران صامتة خرساء، ليس لها سوى لسان دعائي لترويج الحديث عن “محبتها الفائقة” للسلم الإقليمي، فيما تشتعل المنطقة ويسقط وكلاؤها والأبرياء الذين لم يشاركهم الحزب في قرار السلم والحرب.

إرحموا شعب لبنان و”شعبكم” المظلوم، وليخرج أحد منكم ويقول بضمير إنساني: “إننا ضللنا الطريق”، وأخطأنا بخدمة المشروع الأيديولوجي-الجيوسياسي لإيران في المنطقة ولبنان. ونذكّر الحزب بإعلان الإمام الخميني في 19 تموز/يوليو 1989، في ضوء الخسائر التي منيت بها القوات الإيرانية على أيدي العراقيين في العامين 1987 و1988، وكذلك بعد حوالى أسبوعين من إسقاط الأميركيين طائرة مدنية إيرانية، القبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 لوقف إطلاق النار مع العراق الذي كان يرفضه منذ العام 1980، واصفاً قبوله للقرار كمن “يجترع السم”.

وبعد الخسائر الجسيمة التي تعرّض الحزب لها على يد إسرائيل وتدمير الضاحية الجنوبية والنزوح الدافق إلى العاصمة بيروت والمناطق وإلى سورية، حريذ به أن يقتدي بالخميني، بل إن واجبه وقف القتال من جانب واحد، وترك الأمر للحكومة اللبنانية لترتيب انسحابه إلى شمالي الليطاني وحلول الجيش اللبناني محله، فضلاً عن تسليم سلاحه، كما جاء في تصريح للعلامة السيد علي الأمين في 11 تشرين الأول 2024، ولسمير جعجع في اليوم التالي في مؤتمر “دفاعاً عن لبنان” في معراب.

إن تنفيذ القرار 1701، أي الانسحاب إلى ما وراء الليطاني، الذي يعمل عليه ميقاتي، وبري بموافقة الحزب، يعني أن الحزب يخطط ليكرر ما حصل بعد العام 2006 بالعودة تدريجياً إلى الحدود في ظروف داخلية ودولية مناسبة. ويعني أيضاً أن على اللبنانيين أن يتحضروا لجولة أخرى من الصراع العسكري المدمّر مع إسرائيل، طالما ظل الحزب ذراع إيران الطويلة لتحقيق أهدافها وأطماعها في المنطقة.

لقد صرّح نعيم قاسم في 30 أيلول/سبتمبر، أي بعد ثلاثة أيام من اغتيال نصر الله، أن حزبه باقٍ على موقفه بإسناد غزة. وقال في 8 تشرين الأول/أكتوبر إنه يؤيد الحراك السياسي لوقف إطلاق النار. ومن المؤكد أن قرار الإسناد أو وقفه، هو قرار يتخذه النظام الشمولي بقيادة الولي الفقيه. ويعلم الحزب من تجربة حماس في غزة، أن إسرائيل لن تقبل بوقف إطلاق النار. ومعنى القبول بوقف إسناد غزة من قبل الحزب، نظرياً وعملياً، أن سنة كاملة من الصراع وإزهاق الأرواح ذهبت سدى وهدراً، فيما دُمّرت الممتلكات والأرزاق، وازداد النزوح من الجنوب والبقاع على مذبح مصالح إيران الجيوسياسية في المنطقة وسلامتها.

أليس الأجدى للحزب، بعد الخسائر الضخمة التي لحقت بلبنان على يد إسرائيل، قادة وتهجيراً للناس وتدميراً للممتلكات وقضاء على المستقبل، التخلي عن “النضال” الطويل المزعوم بذريعة أن مزارع شبعا والغجر محتلتان، وعن مساندة القضية الفلسطينية، وتسليم سلاحه للدولة اللبنانية، والعودة إلى حضنها؟ إن مصر لم تسترجع طابا إلّا سلما، عبر هيئة التحكيم في جنيف في العام 1988.

ليس هناك لبناني شريف عاقل يقبل ببقاء الحال على ما هو عليه. لبنان يتّسع لجميع أبنائه، وقد ضاعت أكثر من أربعة عقود من عمر أجياله، ومن تاريخه وتقدمه ورخاء شعبه، فيما يرفع الحزب سلاحه في وجه الدولة واللبنانيين منذ تحرير الجنوب. فهل يراجع سياسته ويقوم بنقد ذاتي لتجربته، أم سيبقى عقله وقلبه وروحه ملكاً للولي الفقيه، فيما سلاحه في لبنان؟ وهل يتوقف عن مقولة اتهام معارضيه بالعمالة والخيانة، ويباشر بنقد ذاتي لتجربته؟ إذا ظل أداة إيران في لبنان، فإن إسرائيل ستستمر في تدمير لبنان حتى آخره، واغتيال من بقي من قادته على قيد الحياة، وستبقى الويلات تحل باللبنانيين.

إن الحكومة اللبنانية الضعيفة عجزت في الماضي عن فرض القانون على حزب الله، كما أنها عاجزة في الوقت الحاضر عن نزع سلاحه بسلطة القانون والدستور. وهذا أمر يتطلب مساندة مجلس الأمن الدولي والدول العربية، فضلاً عن تماسك مجتمعي في الداخل اللبناني وراء الدولة اللبنانية وجيشها.

 

https://hura7.com/?p=36764

الأكثر قراءة