العميد منذر الأيوبي
جريدة الحرة ـ بيروت
تطورات متسارعة شهدتها العقود الأخيرة في ميدان الذكاء الاصطناعي Artificiel Intelligence، جعلته أحد أبرز محركات التغيير التكنولوجي والاجتماعي والاقتصادي، إذ لم يعد مجرد مجال بحثي نظري، بل واقعًا تطبيقيًا يشمل حقولًا عدة من الصناعة والطب إلى القانون والفن. من هذا المنطلق نشأت العلاقة المعقدة بين الذكاء الاصطناعي ومنظومة الملكية الفكرية لتفرض مراجعة العديد من الأطر القانونية والتنظيمية التقليدية، سواء من زاوية حقوق المؤلف، براءات الاختراع، أو الحقوق المُؤَالَفَة…
في العودة بدايةً إلى الجذور المفاهيمية للذكاء الاصطناعي، باعتباره نتاجًا معرفيًا تراكميًا امتد منذ منتصف القرن العشرين، طرح آلان تورينغ تساؤله الشهير: “هل تستطيع الآلة أن تفكّر؟” لتبدأ سلسلة محاولات هادفة إلى محاكاة العمليات الذهنية البشرية من خلال أنظمة قابلة للتعلّم والتكيّف. ومع تطور نماذج التعلم الآلي والتعلم العميق، دخل العالم مرحلة جديدة أصبحت فيها الخوارزميات Algorithm قادرة على إنتاج محتوى جديد نصوصًا، صورًا وأفكارًا ما أثار تساؤلات جوهرية حول مفاهيم الأصالة، الإبداع، والملكية.
{تعريف الخوارزمية: مجموعة من الخطوات الرياضية المنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مسألة ما. سميت الخوارزمية نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي}.
من هذا المنطلق تبرز أهمية تحديد الإطار القانوني للملكية الفكرية في عصر الذكاء الاصطناعي إذ تُعدّ “الملكية الفكرية” أحدى الركائز الأساسية لحماية الإبداع والابتكار، بهدف ضمان حقوق الأفراد والمؤسسات في أعمالهم “أدبية، فنية، علمية وصناعية”. أبرزها: حقوق المؤلف، براءات الاختراع، العلامات التجارية والنماذج الصناعية والحقوق الرديفة.
ثم إن دخول الذكاء الاصطناعي على خط الإبداع أحدث إرتباكًا مفاهيميًا وتطبيقيًا، ذلك أن القوانين التقليدية للملكية الفكرية وضِعت في مرحلة كان فيها “الإنسان” الطرف الحصري لعملية الإبداع، فيما باتت الخوارزميات تنتج قصائد، لوحات، مقطوعات موسيقية، وحتى اختراعات تقنية، ما يطرح تساؤلات وتحديات قانونية غير مسبوقة ليتحول المطلوب ليس فقط تحديث النصوص القانونية، بل إعادة تشكيل فلسفة القانون نفسها، بما يتناسب مع واقع جديد يتقاسم فيه الإنسان والآلة أدوات الخلق والإبداع!
مما تقدم قد يمكن وضع توصيات تشريعية مرنة تنظم العلاقة مع منظومة الذكاء الاصطناعي، قابلة للتطوير ومواكبة التطور العلمي الهائل في هذا المجال وفقًا لما يلي:
1- وضع إطار قانوني خاص بالإنتاج الاصطناعي.
2- التمييز بين الإبداع البشري المدعوم بالذكاء الاصطناعي والإبداع الاصطناعي المحض.
3- تعديل قوانين التدريب الخوارزمي لحماية المحتوى الأصلي.
4- تطوير أدوات لتوثيق ناتج الذكاء الاصطناعي.
5- التعاون الدولي لبناء إطار قانوني موحّد.
توازيًا؛ طرحت الطفرات المتسارعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي أيضًا تحديات أخلاقية عميقة تتجاوز الإطار القانوني، لتصل إلى جوهر العلاقة بين التكنولوجيا والقيم الإنسانية. وفي سياق الملكية الفكرية تتقاطع هذه الأخلاقيات مع عدة محاور أبرزها: العدالة في نسب الإبداع، الشفافية في مصادر البيانات، وحقوق المؤلفين والمستخدمين:
أولاً، يُطرح مبدأ العدالة والإنصاف عند تعاملنا مع إنتاج الذكاء الاصطناعي. فهل من العدل أن تستفيد الشركات الكبرى من أعمال آلاف المؤلفين دون مقابل، عبر تدريب خوارزمياتها على بيانات مأخوذة دون إذن؟ وهل يمكن اعتبار الناتج الإبداعي لتلك النماذج “مستقلًا” إذا كان قائمًا على ملايين الأعمال البشرية المحمية؟ هذه الأسئلة تسلط الضوء على الحاجة إلى مقاربة أخلاقية عادلة، تضمن عدم تهميش المبدع البشري لصالح الآلة.
ثانيًا، ترتبط أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بمبدأ الشفافية والمساءلة. فغياب الوضوح في كيفية عمل الخوارزميات، ومصادر البيانات التي تعتمد عليها، يجعل من الصعب التحقق من نزاهة العملية الإبداعية ومراعاتها لحقوق الآخرين. وبالتالي، فإن تعزيز الشفافية في بناء وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، سواء من خلال الإبلاغ عن مصادر البيانات أو توثيق مراحل التوليد، يشكل جزءًا أساسيًا من الأخلاقيات الواجب اتباعها.
ثالثًا، لا يمكن إغفال البُعد المتعلق بالمسؤولية الأخلاقية في استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى يُحتمل أن يكون مزيّفًا، مضللًا، أو منتحلًا. إذ أن قدرة النماذج على تقليد أساليب فنية أو أدبية لمؤلفين معروفين قد تؤدي إلى تضليل الجمهور أو تقويض أصالة الأعمال الأصلية. وهنا تبرز الحاجة إلى أدوات لتحديد هوية المحتوى المُنتج آليًا، ووضع ضوابط أخلاقية تحكم استخدامه. إن استحضار هذه المبادئ الأخلاقية لا يهدف إلى كبح الابتكار، بل إلى توجيهه ضمن إطار يحترم الحقوق ويصون القيم. فالذكاء الاصطناعي، كما قال البعض، ليس فقط مسألة تقنية، بل بات أيضًا مرآة لاختياراتنا الإنسانية.
ماذا عن الأمن والذكاء الاصطناعي؟
فتح الـ AI باب الأمن على وِسْعِه ليصبحا مجالين متداخلين متكاملين، عبر دمجه في استراتيجيات الأمن السيبراني Cyber Crime بهدف تطوير الكشف عن التهديدات والاستجابة لها، توازيًا شكّل (الأمن السيبراني) أساسًا لحماية أنظمة الذكاء الاصطناعي نفسها من الهجمات. يمكن تلخيص دور الذكاء الاصطناعي في الأمن السيبراني بالتالي:
١- تحليل البيانات للكشف عن التهديدات: تحليل كميات هائلة من البيانات لتحديد الأنماط والسلوكيات غير الطبيعية التي قد تشير إلى هجمات سيبرانية على المنظومات الحكومية الامنية والعسكرية.
٢- أتمتة بعض جوانب الاستجابة للحوادث: عبر عزل الأنظمة المصابة أو إيقاف الهجمات، مما يقلل من وقت الاستجابة ويحد من الأضرار المحتملة.
٣- التنبؤ بالتهديدات المستقبلية: من خلال تحليل الاتجاهات والأنماط، بالتالي المساعدة في التنبؤ بالتهديدات المستقبلية المحتملة وتطوير استراتيجيات استباقية للتصدي لها.
٤- تعزيز الأمن عبر الإنترنت: من خلال أتمتة المهام وتحسين الكشف عن المخاطر والسماح بإجراءات أمنية استباقية.
٥- حماية أنظمة الذكاء الاصطناعي نفسها من الهجمات، العبث والتلوث التي تستهدف تعطيلها أو استغلالها وفق ما ذكره المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الارهاب والاستخبارات ECCI. إضافة إلى تطوير أدوات أمنية خاصة للذكاء الاصطناعي AI.
بعد طرحي السؤال لتطبيق الذكاء الاصطناعي Chat GPT عن دوره الممكن في حل معضلة حماية الملكية الفكرية أجاب:
AI يمكن أن يلعب دورًا متقدمًا وفعّالًا في حماية الملكية الفكرية من خلال أدوات وتقنيات متعددة تهدف إلى الرصد، التحليل، الكشف، التنفيذ القانوني وفق منهجية:
- رصد الانتهاكات واكتشاف التعدي بعد التعرف على المحتوى:
- يمكن تحليل النصوص والصور والفيديوهات والموسيقى للكشف عن النسخ أو الاقتباس غير المشروع (مثل أدوات Plagiarism Detection).
- استخدام التعرف البصري Computer Vision تقنيات يمكنها اكتشاف استخدام العلامات التجارية أو التصاميم المسجلة في الصور أو الفيديوهات دون إذن.
- مراقبة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي باستخدام الخوارزميات و”الزواحف الذكية” Swarm Intelligence، لتتبع الاستخدام غير المصرح به للعلامات أو المحتوى الإبداعي.
- تحليل البيانات الضخمة والمواقع ومنصات التجارة الإلكترونية لتحديد الانتهاكات وكشف المنتجات المقلدة أو البرامج المقرصنة، واستخدام التعلم الآلي (Machine Learning) لاكتشاف الأنماط المشبوهة المرتبطة بالقرصنة أو إعادة النشر غير المصرح به.
- إدارة حقوق الملكية تلقائيًا بواسطة أنظمة DRM (Digital Rights Management) مدعومة بالذكاء الاصطناعي تمكنها من: تقييد الوصول غير المصرح به، تعقب استخدام العمل الإبداعي، وإرسال تنبيهات تلقائية عند وجود انتهاك.
- دعم الإجراءات القانونية عبر تحليل الوثائق القانونية بسرعة كبيرة لدعم دعاوى الملكية الفكرية، وتوليد تقارير دقيقة حول تاريخ الانتهاك، مما يعزز موقف صاحب الحق أمام القضاء.
- إنشاء بصمات رقمية Digital Foot-Print فريدة للأعمال الإبداعية – مثلآ: (توقيع رقمي) Digital Signature – يمكن التحقق منها لاحقًا لإثبات الملكية.
في المحصلة؛ يقف العالم اليوم أمام لحظة فارقة تُعيد صياغة مفاهيم الإبداع والملكية والمعرفة، في ظل حضورٍ طاغٍ للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتسارعة. لم يعد السؤال هل تستطيع الآلة أن تفكر؟ بل أصبح: كيف يمكننا أن نحمي نتاج الفكر البشري في عصر تشارك فيه الخوارزميات لعبة الخلق؟
إن إعادة بناء المنظومة القانونية والأخلاقية للملكية الفكرية لم تعد ترفًا تنظيريًا، بل ضرورة مُلحّة تُصون العدالة وتحفظ التوازن بين الابتكار والانتماء الإبداعي. وبينما تتقدم الخوارزميات بخطى ثابتة نحو المستقبل، يبقى التحدي الحقيقي هو أن نبقي “الإنسان” في قلب المعادلة… مُبدعًا، مسؤولًا، وشريكًا في رسم ملامح هذا العصر الجديد..!


