جريدة الحرة ـ
بقلم: د. بشير عصمت، باحث وأستاذ جامعي في التاريخ الاجتماعي والسياسات العامة
في لبنان، حين يحين موعد الانتخابات البلدية، لا يعود المشهد مشهداً ديمقراطياً كما يُراد له أن يبدو، بل يتحول إلى ساحة من ساحات الحرب الباردة بين سماسرة المذاهب والطوائف وعصابات المال السياسي. في الرابع من أيار وما قبله تتسخ جدران القرى والمدن بشعارات الإنماء وخدمة الناس، وتُرفع اليافطات الملونة التي تبشر بالمستقبل الواعد، لكن الحقيقة أكثر قتامة مما تروّج له الحملات الدعائية، فهذه ليست انتخابات بل حفلة تقاسم جديدة، سوق رخيصة لبيع المجالس البلدية قطعاً حصصاً، مقعداً وتوازناً، وكأن كرامة الناس تختزل في صفقة عائلية أو تسوية سياسية عابرة فوق جراحهم المفتوحة.
لا بلدية تُنتخب في لبنان إلا لتكون رهينةً لمراكز القوى، ولا مشروع إنمائي يُطرح إلا ليُدفن تحت ركام المحاصصة الفاجرة. المحافظات الأخرى كما قرى جبل لبنان ستتحول إلى مسرح عبثي، حيث يُفاوض على المقاعد الطائفية ببرود لا يليق إلا بسوق النخاسة، وحيث يتقاتل أبناء العائلة الواحدة على الفتات تحت شعار كاذب اسمه العيش المشترك. وفي هذه البلديات لا مكان لفكرة المواطنة، ولا حضور لروح الإنماء، بل تحالف صريح بين المال الفاسد والنفوذ الطائفي، يقايضون القرى والمدن كما لو كانت بضاعة مستعملة في سوق سياسي مفتوح على كل صنوف الانحطاط.
المرشحون، في غالبيتهم، لا يندفعون إلى السباق البلدي بدافع الإيمان بالخدمة العامة أو الولاء لمشروع جماعي، بل لأنهم يدركون أن المجالس البلدية في لبنان هي مفاتيح الصناديق المليئة بأموال بلا حارس. الصفقات تمرر تحت غطاء الشرعية، المناقصات تُفصل على قياس الزبائن، الموازنات تُهدر لصالح المقاولين المدعومين، والمشاريع تُنفذ لا حسب حاجات الناس بل حسب حاجات الجيوب والعصبيات المتحكمة.
أن تكون عضواً بلدياً في لبنان لا يعني أن تكون خبيراً في التخطيط أو التنمية أو الحقوق المدنية، بل يكفي أن تكون ابن عائلة كبرى أو تابعاً مخلصاً للزعيم المحلي أو من أصحاب الثروات الجاهزة لشراء الولاءات بأرخص الأثمان. وحين تتوزع الغنائم، لا توزع بناء على الكفاءة بل بناء على الولاء، فتتوزع اللجان كلٌ بحسب وزنه العائلي أو السياسي، لا بحسب معرفته أو قدرته على الخدمة.
في هذا المشهد المعطوب، يغيب السؤال البديهي الذي يجب أن يسبق كل حديث عن طائفة أو عائلة أو حزب: هل يدرك المرشح البلدي فعلاً إلى أي مهمة يترشح؟ وهل يفهم أن العمل البلدي ليس استعراضاً انتخابياً ولا مظاهرة ولاء، بل هو التزام أخلاقي أولاً، ومسؤولية إنمائية كاملة تجاه جميع المواطنين دون استثناء أو تمييز؟
الانتخاب البلدي إما أن يكون لصالح الصالحين الذين يحملون مشروعاً عملياً لخدمة الناس، وإما أن يتحول إلى حملة إثارة مشاعر بائسة، أو إلى ملهاة جماعية تسوق الناس كما تساق القطعان إلى صناديق الاقتراع، لاختيار الوجوه التي يعرفون سلفاً أنها لن تغير شيئاً. الانتخاب يكون للتغيير الحقيقي نحو الأفضل، نحو التنمية، نحو إقامة نهج جديد يفتح أبواب المشاركة الشعبية، أما أن يتحول السباق الانتخابي إلى استعراض لأحجام التأييد الفارغ أو للمفاخرة بمن حصد تصفيقاً أعلى، فهذا لا علاقة له بالعمل البلدي ولا بالإنماء، بل هو انتكاسة جماعية في فهم الوظيفة العامة.
ان الأكثر مرارة أن نرى الترشح للبلديات وقد أصبح مدخلاً للتحكم بإنفاق المال العام بشكل غير مجدٍ، حتى بات بعض الفائزين الجدد مشاريع استدعاء قضائي قبل أن يباشروا أعمالهم، إذ لا يكفي الفوز بالتصويت إذا كانت النية استخدام المنصب لتعزيز الزبائنية وتمرير الصفقات بدل خدمة الناس.
لا أحد يناقش حق كل مواطن متمتع بحقوقه المدنية بالترشح، ولكن لا يحق لطائفة أو لعائلة أن تزج بنفسها كمكون انتخابي مستقل. العمل البلدي عمل عام، والعمل العام لا يستثني أحداً ولا يدار كغنيمة حرب ولا يتحول إلى امتیاز خاص. قد يقول قائل إن الغرب كله يترشح، فلنقلّد الغرب إذاً بكل ما يلزم، لا ببهرجة الصور والشعارات، بل بالتقدم خلف برامج فعلية مدروسة، وخطط لإنشاء الحدائق العامة، ورؤى لدعم الفئات الضعيفة، وممارسات مساءلة صارمة للمسؤولين.
ولا شيء أكثر مدعاة للسخرية المبكية من مشهد تعليق صور المرشحين، لا سيما في انتخابات المخاتير، حيث يغدو التنافس على لقب “وجيه الحي” ذريعةً لنشر الصور الفارغة بلا مضمون حقيقي. نعم، المختار يخدم الناس ويتقاضى أجره، ولكن اختيار المخاتير، كاختيار البلديين، يجب أن يقوم على الكفاءة والنزاهة والقدرة على خدمة الصالح العام، لا على الوجاهة والمحاباة والابتسامات المصطنعة.
في الكواليس الانتخابية، ما يُسمى “توزين” الأصوات ليس مجرد قياس لشعبية المرشحين، بل محاولة خبيثة لرسم خارطة النفوذ السياسي المستقبلي، حيث تدخل الأحزاب والزعامات المحلية لا لتحسين أحوال القرى، بل لتحديد نقاط القوة والضعف استعداداً للمعركة الأكبر على البرلمان وهنا يقع السذج من المرشحين البلديين في فخ الوهم، فيظنون أن الدعم الخارجي انتصار لهم، وهو في الحقيقة استخدام لهم في لعبة أكبر منهم بكثير.
لقد جرب اللبنانيون هذا الصنف من البلديات، وجربوا غيره، واكتشفوا أن العناوين العريضة لا تصنع إنماءً، وأن الصور الجميلة لا تبني طرقات ولا تطعم الفقراء. لقد آن أوان القطع مع هذه المسرحية، آن الأوان أن يكون الصوت الانتخابي تعبيراً عن وعي عميق، لا عن خوف أو عاطفة أو تبعية.
في الرابع من أيار، يجب أن يتحول كل صوت إلى صرخة: لا لبلدية الغنائم، لا لبلدية المحاصصة، لا لبلدية الشعارات الكاذبة. يجب أن يكون التصويت لمن يحمل مشروعاً حقيقياً، وثيقة التزام واضحة، لا لمن يوزع وعوداً فارغة أو يشترينا بالصور الملونة.
لا تنتخبوا كبير المحسنين ولا رجل الإنماء الأول، ولا من يشتري تصفيق الناس ويبيعهم سرابًا. انتخبوا صاحب الهم العام، القلق اليقظ، العارف بحاجات الناس، المنصف في قراراته، انتخبوا من يتحسس همومكم، من يعي مسؤوليته، من يفهم أن المجلس البلدي ليس منصباً للوجاهة بل مسؤولية لخدمة الإنسان قبل الأرض، وقبل الحزب، وقبل الطائفة. انتخبوا مرشح التغيير الحقيقي بعد أن تمتحنوه جيداً، بعد أن تزنوا كلماته ومواقفه وخططه بميزان العقل لا بميزان العصبية أو المجاملة أو الاستعراض.
لا تبهركم الوجوه المصفوفة فوق الجدران، ولا الأصوات المرتفعة في الساحات، ولا الولائم ، بل ابحثوا عن ذاك الذي يحمل قلقكم في قلبه قبل أن يطلب ثقتكم في صناديق الاقتراع، عن ذاك الذي يعتبر الإنماء ديناً عليه لا منةً يمنّ بها، عن ذاك الذي يرى في العمل البلدي مشروع بناء وطن لا مشروع بناء زعامة. “لا تكرروا الخطأ ذاته ثم تبكوا خراباً صنعتموه بأيديكم”.
فالبلدية ليست غنيمة، ولا صك زعامة، ولا استحقاق ولاء، بل هي، ببساطة ووضوح، مرآة للوطن الذي نحلم به أو كابوس للوطن الذي يواصل السقوط بين أيدينا. البلدية، في أصلها وفلسفتها، هي ركن المواطنية الأول، هي أول مسرح يختبر فيه المواطن العلاقة النبيلة بينه وبين وطنه: يعرف واجبه تجاه مجتمعه، ويتلقى حقه بكرامة من مؤسسة عامة تخدمه لا تبتزه. العمل البلدي الحقيقي له أقانيمه التي لا يجب التلاعب بها: خدمة المواطن بإنصاف لا بعصبية، توزيع الإنماء بعدالة لا بمحاباة، ممارسة السلطة كأمانة لا كامتياز.
أما إخراج العمل البلدي عن مساره الطبيعي، وتحويله إلى رشوة مقنعة لشراء الولاءات الانتخابية، فهو خيانة حقيقية للمجتمع، وتضليل فاضح للناس، وتدمير مباشر لأسس البناء الوطني من القاعدة. ليس أفظع من تزيين الشارع بيافطات تدّعي خدمة المواطنين بينما تُعقد الصفقات خلف الكواليس لتقسيم المناصب واللجان، وكأن القرية أو البلدة مزرعة خاصة يُتقاسم إنتاجها بين المنتصرين.
العمل البلدي ليس مسرحاً للوجاهة، ولا ميداناً للثأر العائلي أو المبارزات الطائفية، ولا ساحة للرشوة السياسية المغلفة بالمجاملات. إنه أول امتحان حقيقي للمواطنة الحقة، أول حلبة يُفترض أن يلتقي فيها الناس كمواطنين لا كأتباع، كمتساوين في الحقوق والواجبات لا كأدوات في خدمة زعيم أو شيخ.
لهذا، فإن اختيار المرشحين البلديين يجب أن يكون أشد صرامة من أي استحقاق آخر. انتخبوا من يعرف قيمة الحق العام لا من يعرف طرق التحايل عليه. انتخبوا من يخاف على أموال البلدية كما يخاف على خبز أولاده. انتخبوا من يفهم أن أصغر مشروع إنمائي، إذا أُنجز بشرف، هو أهم من ألف خطاب كاذب وألف صفقة مشبوهة.
في الرابع من أيار، القرار بأيديكم. لا تنتخبوا أسياد الولاءات، بل شركاء الوطن. لا تنتخبوا تجار الولاءات، بل حرّاس الحقوق. لا تبيعوا أصواتكم لمن يشترونكم برغيف ويبيعونكم برصيف. صوتكم أمانة، فإما أن يكون بداية عهد جديد أو رصاصة جديدة تُطلق على جسد هذا الوطن المتعب.
إن كل ورقة انتخابية تضعونها في الصندوق، إما أن تكون حجراً في بناء وطنكم، أو مسماراً جديداً في نعشه، فلا تخطئوا العنوان ولا تبيعوا المستقبل بثمن الرغيف أو الوعد الكاذب. من يبيع صوته اليوم، يبيع كرامته غداً، ومن ينتخب سيده برأس مطأطئ لا يحق له أن يشتكي من قيوده حين تشتد حول عنقه. لا وطن يبنى بالتصفيق للمرابين ولا بالركوع أمام تجار الطوائف والعائلات، بل بالاختيار الحر لرجال ونساء يعرفون وجع الناس ولا يسرقون أحلامهم تحت عباءة الوعود الخادعة.
صوتك ليس مجرد ورقة، صوتك إمّا سلاح يفتح درب العدالة، أو قيد جديد تضرب به قدميك بيدك. فلا تجعلوا من صناديق الاقتراع نعوشاً جديدة لأمل ولد في صدوركم ذات يوم وكاد يموت خنقاً تحت ثقل الخيانة الجماعية.
إما أن تنتخبوا مستقبل أولادكم بوعيكم وإرادتكم، وإما أن تنتخبوا جلاديهم مرة أخرى بأيديكم المرتجفة خوفاً أو خضوعاً. القرار لكم، لكن الثمن ستدفعونه أنتم وحدكم… أنتم وحدكم.