جريدة الحرة 
الرجاء الذي ينهض فينا..!
بقلم العميد منذر الأيوبي
في زمن الأزمات الثقيلة، حيث الغموض مستقبل والواقع يفرض قسوة، يكون السؤال الأعمق: ما الذي يجعلنا ننهض كل صباح رغم الخيبات..؟ ليس اجتهادًا أو سعيًا في مناكِبها، بل طاقة خفية تسمى “الرجاء”، تحوّل الضعف قدرة واليأس احتمالًا.
الرجاء بعيد عن ترف اللغة وصدى الكلمات المنمقة، فهو خبز اليوم للروح. في قلب الليل، حين يتراكم العجز ويتساقط الأمل أوراقًا يابسة، ينهض الرجاء كنسمة غير مرئية ترد عنّا اليأس. إنها القوة الخفية التي لا تغيّر ذواتنا فقط، بل ما نواجهه، لنستطيع تحمله وتحويله ببطء ودأب، كما يحوّل النهر مجراه بعد صبر طويل.
الرجاء ليس تفاؤلًا ساذجًا ولا وعدًا بانتصارات، بل معرفة صامتة بأن وراء كل انكسار ميلادًا جديدًا، وأن في كل موت حياة خفية لا نراها بعد. إنسان الرجاء لا ينكر الجروح، بل يضعها في حضن الشفاء. لا ينكر السقوط، لكنه يحوّله سلمًا للصعود وإرادة للنهوض. لذلك يبدو حامله غريبًا عن منطق العالم، مبتسمًا للعاصفة، مؤمنًا في ملء الفراغ، زارعًا بذرة في أرض بور لتستعيد خصوبتها وتثمر في غد آتٍ لا محالة.
الفلسفة تضع الإنسان بين قطبين: عبثية العدم وحلم الامتلاء. الرجاء خيط يشدّنا بينهما، فلا نسقط في العدم ولا ننخدع بحلم مكتمل. هو فعل مقاومة ضد العبث، واعتراف بأن للوجود غاية أوسع من مقاييسنا. ولو كان الزمن خطًا مستقيمًا نحو الفناء، لما كان الرجاء ممكنًا، لكنه زمن دائري يحمل بدايات جديدة، حياة تصر على أن تنجب نفسها مرارًا.
كما أن الرجاء ليس استسلامًا إلى قدر غامض، بل فعل حرية ومسؤولية. يقول إيمانويل كانط: «الرجاء ليس مجرد شعور عابر، بل وظيفة للعقل العملي تمنح الإنسان القدرة على الاستمرار في السعي نحو الخير رغم اليأس»، بينما يعتبر الفيلسوف اللاهوتي بول تيلتش أن “الرجاء طاقة وجودية تسمح بمواجهة اللايقين والعبث”.
أن ترجو يعني أن تختار ألا تُسلِّم ذاتك لليأس، أن تصرّ على أن وجودك ليس حيادًا بل مشاركة في صنع المعنى. فالحرية دون رجاء قسوة عمياء، والرجاء دون حرية خيال عاطفي. جمعهما يصنع إنسانًا مسؤولًا، مدركًا أن مصيره ليس مكتوبًا بالكامل، لكنه أيضًا ليس مُلقى في فراغ، بل بين يدَي القدر ويدَي الاختيار. الرجاء هو ما يسمح له بمد يده ليصوغ شيئًا من هذا العالم.
للشعوب، الرجاء ليس ترفًا بل سرّ بقاء. حيث تتكاثر الأزمات وتنهش الحروب أجساد الخلق، يصبح موقفًا تاريخيًا، القوة الوحيدة التي تجعل الناس ينهضون كل صباح ليقولوا: «لن نُمحَّى». من دون هذا الرجاء، يتحول المجتمع إلى رماد، ومن دونه لا مستقبل لأي وطن. كم من غزّة على هذا الكوكب صمدت، وكم من بلدان تحررت، لأن في كنهها إدراك حقيقة وقناعة وإيمان؟ هنا يكمن رفض جماعي لفكرة أن الفشل هو المصير الأخير.
الطغاة لا يعرفون للحياة قيمة، ويجهلون معنى المقاومة. تواجههم القلة بالرجاء قوة الضعفاء وحكمة المقهورين، غناء الذين يعرفون أن الشمس تولد من رحم الليل لا من وفرة النهار. وفي لحظة ما، حين تظن أن العالم انتهى، تسمع من أعماقك همسًا يقول: لم تُخلَق لتسقط، بل لتنهض في كل مرة.
عميد، متقاعد كاتب
رابط مختصر ..https://hura7.com/?p=67864


