د. بشير عصمت
جريدة الحرة ـ بيروت
لم تكن جنازة زياد الرحباني مجرّد وداعٍ لفنان، بل كانت مشهدًا فريدًا لانبعاث وطنٍ مقهور من بين أنقاضه، وهتافًا في وجه الطوائف، وركعة إنسانية على إيقاع لحن مقاومٍ للعزف الرسمي. الشوارع سبقَت الكنيسة. والناس سبقوا المطران.
في الحمراء، حيث عاش زياد وغنّى وسخر وبكى، احتشد الرفاق. لا بطاقات دعوة، ولا بروتوكول. هناك حيث تُدوَّن الكرامات الحقيقية، رُفعت الأعلام الحمراء، وعُلّقت صوره مع المطرقة والمنجل، وأُعيد بثّ صوته وهو يلعن النظام الطائفي ويسخر من جشع رأس المال. كانت بيروت – لأوّل مرّة منذ زمن طويل – صادقة في بكائها.
ثم جاء المشهد الذي لا يحدث كل يوم. المطران سلوان، الحاضر بصفته الكنسية، غاب عنه الرسميّ البارد، ولبس وجهًا إنسانيًا يشبه زياد أكثر مما يشبه الصليب. لم ينكر إلحاد زياد، لم يتجاهل شيوعيته، لم يُخفِ اختلافاته عنه، بل احتضنها بكلمات مؤثرة، حين قال إن الإنسان الذي عاش للناس وخدم الحق هو أقرب إلى جوهر المسيح من كثيرين. هكذا التقى النور بين إنسان يسوعي وإنسان شيوعي.
ريما، العاشقة ، جلست بصمت. وفيروز، القلعة الأخيرة، جاءت بثقل التاريخ، ولكن من غير ضوء… كأنها تعلم أن هذه البلاد، يومًا بعد زياد، لن تُنجب آخر مثله.
جنازته لم تكن لوداع رجل فقط. كانت وداعًا لزمن لا يتكرّر: زمن الكلمة الصادقة، والموقف الجريء، والنكتة التي تفضح، والنغمة التي تثور، والحب الذي يخاصم ليحمي كرامته. كان زياد شيوعيًا على طريقته، لا يحبّ الأوامر، ولا يلتزم بالشعار، ولكنه ظلّ صوت المظلوم، وبوصلة الوعي، وأرقّ وجوه الرفض.
وها هو يُدفن… لا في ضريح من حجر، بل في ذاكرة جماعية شاسعة لا يطالها الزمن. دفنوه في حديقة منزل فيروز، لكنه خرج من الكنيسة إلى السماء من باب الحمراء، على أكتاف ناسه، بشهادته الوحيدة: الفنّ، والكرامة، والتمرّد.
زياد لم يكن ماركسيًا تقليديًا، ولا قديسًا كنسيًا. كان زياد الرحباني. ابن لبنان كما نحلم به، لا كما خنقوه. والذين بكوه، بكوا زمنًا كان يمكن أن يُبنى، لو أن هذه البلاد أنصتت أكثر لصوت فنانيها من طنين المدافع.
سلامًا على الرفيق الذي ودّعته الشوارع قبل الكنيسة.
سلامًا على المؤمن بالإنسان، ولو أنكر كل الآلهة.
سلامًا على الصوت الذي كسر الصمت، ثم مشى…


