الأربعاء, مايو 21, 2025
14.5 C
Berlin

الأكثر قراءة

Most Popular

إصدارات أسبوعية

السرية المصرفية في لبنان: مافيا في القمة… وشعب مسحوق في القاع

الحرة بيروت

قال هنري فورد ذات يوم: “لو فهم الناس كيف يعمل النظام المصرفي، لاندلعت ثورة في الصباح التالي”. في لبنان، لم تعد هذه العبارة مجازًا بل توصيفًا دقيقًا لواقع بلد أُنهك اقتصاديًا واجتماعيًا بفعل منظومة مصرفية وقانونية متشابكة، كرّست الإفلات من العقاب، وشرعنت نهب المال العام والخاص.

من “سويسرا الشرق” إلى جنة التبييض

حين أُقرّ قانون السرية المصرفية في لبنان عام 1956، شكّل خطوة جريئة على المستوى الإقليمي، إذ تحوّل البلد الصغير إلى ملاذ استثماري وسط بيئة عربية تحكمها أنظمة عسكرية واشتراكية. اجتذبت بيروت الرساميل من كل صوب، وازدهر القطاع المصرفي حتى باتت توصف بـ”سويسرا الشرق”.

لكن، بمرور الزمن، تحوّلت هذه “الواحة” إلى بيئة مثالية لغسل الأموال، والتحايل الضريبي، وتخزين الثروات المشبوهة. فالقانون الذي أُنشئ لتحفيز الثقة، انقلب إلى أداة لحماية الفساد، وسلاح قانوني بأيدي الطغمة الحاكمة لإخفاء الثروات المنهوبة ومنع التحقيق والمحاسبة.

السرية كجدار يحجب العدالة

مع اشتداد الأزمات، بدأ يتكشف الدور الكارثي للسرية المصرفية في تعميق الانهيار اللبناني. فقد باتت حاجزًا أمام أي تدقيق جنائي، كما ظهر في عرقلة التحقيقات في حسابات مصرف لبنان، وفي تعطيل جهود الكشف عن التحويلات الخارجية التي جرت إبّان الانهيار المصرفي عام 2019.

والأسوأ أن هذه السرية، التي يفترض أن تحمي الخصوصية، أصبحت آلية لحجب الأدلة عن القضاء، وتعطيل العدالة، وتمويه الفاعلين الحقيقيين في عمليات الفساد الكبرى.

من بنك المدينة إلى جمّال ترست بنك: نموذج “المصرف تحت الطلب

تكشف تجربتان مصرفيتان بارزتان مدى توظيف السرية المصرفية لخدمة شبكات التبييض وتمويل الإرهاب:

  • بنك المدينة: صُفّي في 2003 بعد اتهامات باختلاس مئات ملايين الدولارات، في فضيحة طالت مسؤولين سوريين ولبنانيين، وكُشف عن صلات بين تحويلاته وواجهات مالية مرتبطة بـ”حزب الله”. رغم الاتهامات، بقيت كثير من الحقائق طي الكتمان، محمية بجدار السرية.
  • جمال ترست بنك: أُغلق عام 2019 إثر إدراجه على قائمة العقوبات الأميركية بتهمة تقديم خدمات مالية لمؤسسات تابعة لـ”حزب الله”، بينها “مؤسسة الشهيد” وشركات وهمية تعمل ضمن شبكة الحزب المالية. ورغم خطورة الاتهامات، لم تُفتح أي تحقيقات جدية محلية، لا من مصرف لبنان ولا من السلطات القضائية.

هاتان الحالتان تؤكدان أن السرية المصرفية باتت غطاءً مؤسسيًا لتبييض الأموال، وعرقلة العدالة، وتغذية شبكات النفوذ غير الشرعي.

شروط الخارج ورفض الداخل: سلطة ضد الشفافية

يشكّل رفع السرية المصرفية مطلبًا أساسيًا من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كشرط لأي دعم للبنان. فالمجتمع الدولي يعتبر أن لا إصلاح ممكنًا دون كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات.

ومع ذلك، تواصل السلطة السياسية في لبنان المماطلة، تارةً بحجة “الحفاظ على الثقة بالقطاع المصرفي”، وتارةً أخرى بذريعة “الاستقرار”. في الواقع، ما تخشاه المنظومة الحاكمة ليس زعزعة الثقة، بل انكشاف المستور: من هرّب الأموال، من تلاعب بسعر الصرف، ومن شارك في الهندسات المالية التي نهبت ودائع المواطنين.

في وقت بدأت فيه دول كبرى، منها سويسرا نفسها، بتفكيك نظام السرية المصرفية تجاوبًا مع المعايير الدولية لمكافحة التهرب والفساد، يتمسك لبنان بنموذج عفا عليه الزمن، يستفيد منه حفنة من النافذين، فيما يُترك ملايين اللبنانيين لمصيرهم تحت ركام الانهيار.

قد تبدو معركة رفع السرية المصرفية تقنية أو قانونية، لكنها في جوهرها سياسية وأخلاقية، تمس جوهر الصراع بين دولة القانون ودولة المافيا. وفي بلد كلبنان، باتت الحقيقة أولى ضحايا السرية.

لا يمكن للبنان أن ينهض من أزمته دون تفكيك منظومة الإفلات من العقاب، وفي قلبها قانون السرية المصرفية. إن كسر هذا الحاجز لا يعني المساس بالقطاع المصرفي، بل العكس: هو خطوة أولى لاستعادته، وبناء ثقة حقيقية مبنية على الشفافية والمساءلة.

إنه زمن كشف الحساب. ورفع السرية المصرفية ليس ترفًا تشريعيًا، بل ضرورة وطنية… الآن، لا غدًا.

https://hura7.com/?p=49678

الأكثر قراءة