د. بشير عصمت
جريدة الحرة ـ بيروت
- محمود درويش: “الحياد جريمة، حين يكون الوطن بين الذبح والنجاة.”
- حنا أرندت: “شرّ هذا العصر ليس في العنف وحده، بل في التواطؤ الصامت عليه.”
- ألبير كامو: “القتل من أجل فكرة لا يجعلها أكثر عدالة، بل يجعلنا قتلة.”
في السويداء، لا يُذبح الناس فقط، بل يُذبح المعنى، وتُنسف ذاكرة الوطن. وبينما تغرس الفصائل الإسلاموية سكاكينها في جسد المدينة باسم الرب، ترسم تل أبيب بهدوء حدوداً جديدة لوطنٍ يتمزق.
الجولاني لا يذبح وحده، بل يفتح طريقاً لمشروع أكبر، تكتمل خرائطه على مكاتب الأمن الإسرائيلي وتُدفع أثمانه بدماء السوريين. ليست معركة عقيدة، ولا ثأر قبائل، بل تنفيذ بطيء لوعد قديم: ألا تقوم لدمشق قائمة، وأن تُكسر السويداء حتى لا ترفع رأسها، وأن يُغرق المشرق في ذبحٍ ذاتي، تتفرّج عليه العواصم، وتباركه التحالفات.
وحدها المشانق تتكرر، وحده الصوت يُخنق، وحده الإنسان يُطحن بين السكين والخرائط.
فمن لم يرَ يد تل أبيب خلف المجزرة… فليُكمل نومه في المقبرة.
في السويداء، درة الجنوب السوري، ذُبح الناس على هويتهم، لا على سلاحهم. اجتياحٌ دموي أتى من عمق الانحطاط، لا من عمق الخلاف. نساء يُنتزعن من بين أطفالهن، شيوخ يُصفّون بطلقة في الرأس، شبان يُطعنون في صدورهم لأنهم ينتمون إلى طائفة قررت ألّا تبايع الحاكم الديني الجديد. الأرض التي ظلّت عصيّة على الاحتلال الفرنسي وعلى الاستسلام للبعث والطائفية، تُجتاح اليوم على يد فصائل تستورد أبناءها من أواسط آسيا وأفغانستان، تحت رايات التوحيد الزائف، وإملاءات جهادٍ بلا روح ولا وطن. في هذه اللحظة، لا يتصارع السوريون، بل يُذبحون، يُنحرون، على مائدة مشروع كبير لا علاقة له لا بالشام، ولا بالإسلام، ولا بالكرامة.
ولأن الكرامة لا تُقسم، تُسفك الدماء عند عتبة دمشق، تلك التي لطالما كانت مدينة التعدد والانفتاح واللقاء. دمشق، التي احتضنت فيروز كل صيف، في افتتاح معرضها الدولي، فغنّت من قصيدة سعيد عقل: “شامُ، أهلوكِ أحبابي، وموعدُنا أواخرَ الصيف… أن الكرم يُعتصر”، تلك الشام نفسها، تغصّ اليوم بصوت الموت، وتتعفّن في خنادقها قيم المدينة. أين صارت تلك الشام؟ أين غاب وجهها الحضاري؟ لماذا باتت تُدار بالصمت المريب عن مذابح تُرتكب باسم الدين؟ وكيف صارت قبلة للعسس والفيالق المتعددة الجنسيات التي لا تفهم من سوريا سوى حدود المزرعة، ومن الدين سوى سوط الخضوع؟
دخل الجولاني دمشق من خاصرتها. لم يأتِ تائبًا، ولا مقاومًا، بل دخلها فاتحًا بزيّ عميل. صفقوا له طويلًا. روّجوه كقائد، كبطل خلاص، كرجل التوازنات. ولم تمضِ إلا أشهر، حتى أطلّ عليهم بالسكاكين، يُراكم الرؤوس في الساحات، ويحول الفصائل إلى فرق موت. مثلما صفقوا للخميني، حين أطلّ كظل الإمام المنتظر، نبيًّا في زمن الهزيمة، باركوا عمامته وبللوا وجوههم بدموع النشوة. وقبل أن يصيح الديك، كانت المشانق قد عُلقت للثوار، وفُرض الحجاب بالرصاص، وسُحل الطلبة في شوارع طهران، وفرّ الشاه، لكن الثورة أكلت أبناءها، وبقي الوليّ يدير المقصلة باسم الله. ها هو التاريخ يُعاد، ولكن بأسماء جديدة. الجولاني مكان الخميني، السويداء مكان طهران، والأبرياء هم ذاتهم: غرباء في وطنهم، مذبوحون باسم الحاكم الإلهي.
أية شريعة تلك التي تبدأ بالمبايعة وتنتهي بالذبح؟ أية مقاومة تلك التي تحرر الأرض لتستعبد الإنسان؟ لا فرق بين جلادٍ يقتل باسم المذهب، وآخر يقتل باسم الوطن، وثالث يقتل باسم الرب. جميعهم وجه واحد لمشروع واحد: مشروع قتل الروح الحرة، وصهر التنوع، وفرض النظام العقائدي الحديدي الذي لا يرى في الإنسان إلا مطيّة لطاعة الولي أو الخليفة أو الإمام. ليست هذه مجزرة طائفية، بل إعلان صريح عن فاشية جديدة، تتدثر برداء الإسلام بينما تمارس أخطر ما يمكن أن يُرتكب باسمه.
ما يجري في السويداء ليس حادثة محلية، بل فصل دامٍ من خطة أكبر: خنق لبنان من خاصرته الشرقية، تفكيك سوريا من عمقها الوطني، تنصيب وكلاء للهويات الصافية، وتجريب خريطة التفتيت على لحم الدروز. من قال إن الصمت فضيلة؟ ومن قرر أن المواطنة تتجزأ؟ هل يدرك العلويون والأكراد والمسيحيون والمراشدة أن السكين ذاته ينتظرهم؟ وهل يعتقد اللبنانيون أن جبل عامل أو زغرتا أو عكار في منأى عن المصير إن نجح الذبح في السويداء؟
لم يعد يجدي الحديث عن وقف النار كشرط أخلاقي. بل صار فرضًا، وطنيًا، وأخلاقيًا، وأمميًا. لا بد أن تنسحب كل الفيالق الغريبة، من الإيغور والطاجيك والكازاخ والأفغان، فليس لهم في هذه الأرض غير الفتنة. لا بد أن يعود الجيش السوري إلى دوره أو يتفكك إلى الأبد، إذ لا دولة في ظل جيش يُدار على قاعدة الولاء الفئوي. لا بد من تدخل حقيقي لحماية الجماعات الثقافية والدينية، لا على قاعدة الأقليات، بل على أساس الحق في البقاء. لا بد من محاكمة الفاعلين لا تبرير أفعالهم، ومن تفكيك هذا التحالف المريب بين الجزار والراعي الدولي.
لقد بلغنا الحضيض. في هذا الشرق الكسيح، صار القاتل حاكمًا، والشهيد متّهمًا، والمواطن مشروع ضحية. أما العواصم الكبرى، فترعى المجازر بأدوات ناعمة، ثم تدعو للحوار بينما تبيع السكاكين.
هذه ليست نهاية التاريخ. لكنها لحظة السقوط الكبرى. لحظة يتعيّن فيها على من تبقّى له ضمير أن يصرخ، لا باسم الطائفة، بل باسم الإنسان. حقاً إن الوحوش لأرحم.


