محمد عبد اللطيف
جريدة الحرة ـ بيروت
نقطة… ومن أول السطر: ماذا تبقّى من سوريا؟
شمالٌ محتلٌّ من قبل قوات “قسد” المدعومة أميركيًا، وتركيا التي تتوغّل بحجة “الأمن القومي”، وجنوبٌ يتآكل سياسيًا واجتماعيًا، وها هي السويداء ترفع علم إسرائيل في مشهد عبثي يكشف فصول الانهيار الأخير في بنية الدولة القومية. لم تعد المسألة تتعلّق ببقاء نظام أو رحيله، بل ببقاء وطن من عدمه.
ما جرى في السويداء ليس مشهدًا عابرًا ولا حالة فردية من الغضب الشعبي، بل هو مؤشّر خطير على دخول مرحلة “ما بعد الدولة” في سوريا، وسط انزلاق تدريجي نحو تفكك متسارع تحت أعين جميع القوى الدولية. في السابق، كان الحديث عن “سوريا المفيدة” و”سوريا المفككة” مجرّد تكهّنات استراتيجية، أما اليوم، فهذه السيناريوهات تُنفَّذ على الأرض، بأسلوب لا يختلف كثيرًا عمّا حدث في العراق وليبيا والسودان واليمن.
لكن ما يجعل الحالة السورية أكثر تعقيدًا هو تداخل الصراعات الدولية مع البنى الداخلية الطائفية والعرقية. فبين العرب والأكراد والعلويين والدروز، وبين الإيرانيين والروس والأتراك والإسرائيليين والأميركيين، تلاشت الحدود بين المحلي والإقليمي والدولي. باتت سوريا مسرحًا مفتوحًا تتنازع فيه القوى الكبرى مناطق النفوذ، والضحايا هم السوريون أنفسهم، الهاربون من موتٍ إلى موت، ومن علمٍ إلى علم، ومن وطنٍ إلى حدودٍ بلا معنى.
رفع علم إسرائيل في قلب جبل العرب ليس مجرّد استفزاز، بل انعكاس لفقدان الثقة في المركز، وتحوّل الانتماءات من الدولة إلى الطائفة، ومن الوطن إلى الحماية الخارجية. إنه إعلان صريح بأن النظام الحاكم، رغم كل خطابه السيادي، لم يعد يملك سيادة لا على الجغرافيا ولا على الرموز، وأن الانقسام البنيوي لم يعد قابلًا للترميم في ظل استمرار استثمار الصراع من قِبل الخارج..،
وفي تطوّر ميداني لافت، ذكرت تقارير محلية أن بعض الأجهزة الأمنية الموالية للنظام قد انسحبت من مواقع لها داخل السويداء خلال الأيام الأخيرة، بالتزامن مع تصاعد التوترات ورفع علم إسرائيل من قِبل بعض الناشطين المحليين، في مشهد يعكس فراغًا أمنيًا، ترك عن عمد أو تحت ضغط، ويفتح الباب أمام تدخلات خارجية أو “مبايعات رمزية” تتجاوز حدود الجغرافيا والسيادة…،
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل سوريا أمام نموذج عراقي جديد قائم على المحاصصة والنفوذ الإيراني-الأميركي؟ أم هي على مشارف سيناريو ليبي، حيث تتقاسم الميليشيات والقبائل الحقول والمدن؟ أم أنها تحاكي مصير السودان، حيث الحرب الأهلية تأكل ما تبقى من الدولة؟ أم أننا أمام يمنٍ جديد، شمالي وجنوبي، في قالب شامي؟
إن غياب مشروع وطني جامع، واستمرار تجاهل مطالب الإصلاح، والاعتماد على القوة العسكرية وحدها، لم يُنتج سوى دولة هشة، يسهل اختراقها من كل صوب. فالاحتلال التركي في الشمال، والتغلغل الإيراني في الوسط، والسيطرة الروسية على القرار السيادي، والدعم الإسرائيلي لتحرّكات في الجنوب، كلها مؤشّرات على موت الدولة المركزية.
من يدير سوريا اليوم ليس النظام، ولا المعارضة، بل حفنة من الميليشيات والمصالح العابرة للحدود. ولعل رفع علم إسرائيل هو الصدمة اللازمة لفهم ما نحن مقبلون عليه: ليس نهاية نظام، بل نهاية وطن، ما لم تتدارك القوى الوطنية –إن تبقّى منها شيء– الكارثة، وتصنع مشروعًا تتلاقى فيه الهويّات السورية بدلًا من أن تتصارع.
لقد انتهى زمن الخطابات المعلّبة والشعارات الجوفاء. من يرفع علم إسرائيل في وجه نظامه لا يفعل ذلك حبًا بها، بل كفرًا بكل شيء. وما أخطر الكفر حين يكون بالوطن!
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات


