محمد عبد اللطيف
جريدة الحرة ـ بيروت
الحديث عن “سوريا” اليوم ليس مجرد تناول لشأن جغرافي أو سياسي، بل هو غوصٌ في نسيجٍ ممزق من التاريخ والجغرافيا والعقائد والمصالح الدولية المتشابكة. هذه البقعة التي كانت في زمنٍ ما قلباً نابضاً للأمة، تحولت بفعل التداخلات الإقليمية والدولية إلى ساحة تصفية حسابات، واختبار نماذج فاشلة من الحكم والاستقلال الشكلي. بين استعصاء التاريخ وغطرسة الحاضر، تقف دمشق الآن أمام مفترق حادّ: إما أن تفيق من سباتها الطويل، أو تُبتلع بالكامل في فكّ المشروع الكولونيالي الحديث الذي لم يعد يختبئ خلف أقنعة الدبلوماسية أو التحالفات.
سوريا، ومنذ نشأتها الحديثة، كانت مشروعاً مستلباً، تُدار فيه الصراعات بأدوات داخلية، لكن بإرادة خارجية. الكيانات الطائفية والعشائرية لم تكن يوماً نتاج بيئة محلية نقية، بل تمت رعايتها بعناية منذ سقوط الدولة العثمانية، لإبقاء النسيج الوطني هشاً، ولتكريس هيكلية حكم مفخخة. ولعل الانفجار السوري منذ 2011 كان تتويجاً منطقياً لقرنٍ من العبث المتواصل.
في السنوات الأخيرة، توهّم البعض أن تغيير رأس النظام هو الخطوة الأولى نحو الخلاص، لكنهم أغفلوا عن عمد أو جهل أن رأس النظام لم يكن سوى مَخرج في مسرح يكتبه “الغول” الجنوبي، وتنفذه قوى إقليمية، وتباركه واشنطن من علٍ، تحت ستار الحفاظ على “الاستقرار”. ولم يكن “الاستقرار” هنا إلا إعادة هندسة الخرائط الطائفية، وتجويف الكيانات المركزية، وزرع الكيانات الذاتية على أطراف الدولة المهشمة.
في هذا السياق، برز مشروع “إقليمي” يتقاطع فيه الغزو الناعم مع العزل الكامل. بين سحب السلاح من الجنوب، وتمكين الزعامات القرابية، والسعي لتوقيع اتفاقات إذعان تحت لافتة “عدم الاعتداء”، بدا أن المطلوب ليس فقط تحييد سوريا، بل تحويلها إلى أرض طيّعة يمكن هندستها وفق الطلب الإسرائيلي، وعلى إيقاع الأجندة الأمريكية الخليجية التركية المتفاوتة في أولوياتها، لكنها متفقة في هدفها: سوريا بلا هوية، بلا سيادة، بلا عمق.
لم يكن رد دمشق – أو ما تبقى منها – في الأشهر الأخيرة سوى دوران في ذات الحلقة المفرغة: مراهنة على وساطة هنا، وتسوية هناك، واستجداء تفاهم مع واشنطن، ظناً أن أمريكا لا تزال صاحبة القرار الأول. لكن الحقيقة أن القرار منذ ما بعد 1967 – وتحديداً منذ انهيار مشروع الوحدة العربي بعد 1973 – بات في يد تل أبيب، بحكم تقاطع المصالح والسيطرة المطلقة على دوائر التأثير السياسي في الغرب. ودمشق، للأسف، تأخرت كثيراً في إدراك ذلك.
أما الاقتتال الداخلي في الجنوب السوري، تحديداً في السويداء، فكان كاشفاً لفشل السلطة المركزية في ترميم النسيج الوطني، وفضح هشاشة البنية التي بُنيت على كتم الغضب لا على معالجة أسبابه. فالقرابات المتناحرة ليست وحدها من جرّ الوطن إلى الحافة، بل المركز ذاته، الذي ظلّ أسير عقيدته الأمنية، عاجزاً عن تحويل السلطة إلى مشروع وطني جامع.
الفرصة الأخيرة أمام دمشق تكمن في تفكيك وهم المراهنة على الخارج، أيّاً كان لونه. فالغرب، بكل أطيافه، لم يعد معنياً بسوريا إلّا بقدر ما تخدم إسرائيل. وروسيا، الغارقة في مستنقعات أوكرانيا، لم تعد تملك رفاه الوقت. وإيران، التي أدارت الحرب بالوكالة، تنكفئ تحت وطأة العقوبات والعزلة. وحده مشروع عروبي جديد، يتجاوز الخلافات المذهبية والجهوية، ويضع تصوراً جامعاً لما بعد “الدولة الشكلانية”، قادر على إنقاذ ما تبقّى.
مشروع “سوراقيا” – كيان موحّد يضم الهلال الخصيب، يبدأ من الشام ويمتد حتى الرافدين – لم يعد مجرد حلم طوباوي، بل ضرورة وجودية في وجه مشروع “الشرق الجديد” الإسرائيلي الأمريكي، الذي يتقدّم بخطى ثابتة من الجليل إلى جبل الشيخ. آن الأوان لفك الارتباط مع قرنٍ من الهزيمة، والعبور إلى مرحلة لا تُبنى فيها الدول على هويات موروثة أو ولاءات قبلية، بل على إرادة سياسية مستقلة وشجاعة، تعرف أن الغرب ليس قدراً، وأن الغول يمكن كبحه بتحالفات واقعية، تبدأ من الداخل.
لن تقوم لسوريا قائمة طالما كانت كل قرابية تبحث عن خلاصها الخاص، ولا دولة ستولد من رحم الخوف أو التبعية. إننا بحاجة إلى نخب واعية، تعي حجم الكارثة، وتبدأ بصياغة رؤية جديدة، تخرج من فخ “دولة بلا هوية”، إلى مشروع دولة تتجاوز نفسها، نحو كيان عربي موحّد، يُعيد للخارطة عقلها، ويمنح للأمل شرياناً جديداً ينبض خارج أوهام الغرب ومجازه الغولاني.
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية


