جريدة الحرة
بقلم: الياس كساب – تورونتو، باحث سياسي واغترابي
على وقع الدعوة لضم كندا وجعلها الولاية الـ51، والحرب التجارية وزيادة الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب على كندا، جرت الانتخابات البرلمانية الكندية، وبدا ترامب خلال عملية الاقتراع كأنه “الفيل في الغرفة” كما يقال في الإنكليزية.
فبعد أن كان حزب المحافظين بزعامة بيار بوليڤيير يتقدم بعشرين نقطة في استطلاعات الرأي في ديسمبر الماضي قبيل استقالة جاستن ترودو، وبدا الحزب الليبيرالي حينها مُهدّداً بهزيمة تاريخيّة مُدوّية، بدأ ترامب حربه التجارية الشرسة على الصديق التاريخي للولايات المتحدة، والحليف للشعب الأميركي في السلم، كما في الحرب، منذ الحربين العالميتين، مروراً بحرب كوريا، وانتهاءً بأفغانستان والعراق.
وكعادة ترامب الساخرة والمهينة الخارجة عن المألوف، وبدون أعراف ديبلوماسية، أو احترام للقيم المشتركة بين شعبي البلدين، راح يُهدِّد بضم كندا وجعلها الولاية الـ51، ممّا أجّجَ الشعور الوطني الكندي تجاه الغطرسة “الترامبية”، وبثّ الشعور بعدم الاستقرار الاقتصادي نتيجة عدم القدرة على استشراف مواقف الرئيس الأميركي البعيدة عن أيّة توقعات منطقيّة، خاصَّةً وأنَّ البلدين محكومان باتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية، والتداخل الاقتصادي بين البلدين يتشابك وكأنهما بلدٌ واحد.
فرغم التضخّم الذي استفحل معه غلاء المعيشة خلال حكم ترودو، وأزمة السكن، والأمن، والتراخي السياسي تجاه القضايا الحساسة إجتماعيّاً، والتماهي مع مواقف الرئيس بايدن غير الشعبية، ورغم الترهل الحكومي في ظلِّ حكومة أقلية ليبيرالية ضعيفة، بدأ الحزب الليبيرالي البحث عن زعيمٍ جديد بعد استقالة ترودو، لقناعة لديه، ولإحساس استراتيجي، بأنَّ الكنديين يبحثون عمّن يستطيع أن يقف بوجه ترامب، وبنفس الوقت لديه الخبرة الاقتصادية لإراحة الناس في ظل الشعور بعدم الاستقرار، فاختير مارك كارني، وهو شخصية مالية واقتصادية مرموقة ذات خبرة عالية، حيث شغل منصب حاكم المصرف المركزي الكندي، ومن ثمَّ استعانت به المملكة المتحدة كحاكمٍ لمصرفها المركزي مما ساعدها على بناء استقرار مالي في زمن “البريكزيت” أي الانفصال عن أوروبا.
هزيمة المحافظين
في وعي، ولا وعي الكنديين، ساد الاعتقاد وكأنَّ المحافظين هم نسخة عن الجمهوريين، فلم تنفع معهم مواقف زعيمهم المعارض لترامب، وبما أنّ البرنامج الانتخابي للمحافظين شعبيٌّ، لا بل مطلوب، جنحَ كارني وحزبه من اليسار إلى الوسط، وقضت النتائج على الأحزاب الصغيرة، فاليسار المتمثّل بالديمقراطيين الجدد انتهى بسبعة مقاعد، وحزب البلوك كيبيكوا صاحب النزعة الاستقلالية خسر ما يقارب نصف نوابه لينتهي بـ22 نائباً، ورغم زيادة المحافظين لنوابهم بـ24 نائباً، استطاع الليبراليون أن ينتزعوا السلطة، ولكن بحكومة أقلية، وخسر زعيما المحافظين والديمقراطيين الجدد مقعديهما.
الانقسام العامودي
بالرغم من تعدد الأحزاب في الديمقراطية الكندية بدت البلاد تحت نظام الحزبين، كما في أميركا. هذا الانقسام العامودي قد يشعل غرائز الاستقلاليين في كيبيك مجدداً، أو في ألبيرتا مثلاً، حيث يتنامى الشعور بأنَّ كيبيك أعطت الفرصة لعودة الليبيراليين، وهذا غير مستحب، فيما الانقسام سيّد الموقف في أهم وأغنى ولاية، أي أونتاريو. الأمل يبقى في أنَّ حكومة أقلية بحاجة للتنسيق مع الأحزاب الأخرى لإقرار مشاريعها، ولكن، عشيّة النتائج، ظهرت دعوات إيجابية من جميع الأحزاب يُعوَّل عليها للتضامن الوطني بوجه محاولة ترامب السيطرة على مقدرات كندا.
الصوت العربي واللبناني
في ظل تقارب الأصوات في المدن الكبرى كان للصوت العربي من جهة، والصوت اللبناني من جهةٍ أخرى، الدور الأساس في ترجيح كفة الكثير من الفائزين، ومن الحزبين. الوضع في غزة لم يؤثر كما كان يُفترض، لأنَّ مواقف الحزبين متشابهة فيما يتعلق بالإرهاب، وإيران، وإسرائيل. إنّ الشعور بالاستقرار دافعٌ أساس، فأبناء هذه الجاليات قادمون من بلدانٍ يعمها التوتر والصراعات، وهم متعلقون بكندا، البلد المنصف، والمضيف، وحامل لواء حقوق الإنسان. صوتت هذه الجاليات للحزبين، وفي كل كندا، وشاركت ترشيحاً، وعلى سبيل المثال، أعيد انتخاب اللبنانيين لينا دياب في نوڤا سكوتشيا، وفيصل الخوري في كيبيك من الليبيرال، وزياد أبو لطيف من المحافظين في ألبيرتا.
التحدي الأقرب لترامب
المتابع لخطابات كارني يتيقّن فوراً بأنَّ نتائج الانتخابات الكندية هي التحدي الأول لترامب على حدود بلاده، بقيادة متمرّسٍ بنى صداقات في أوروبا المتألمة من الرئيس الأميركي أيضاً، ويطمح لأن يغيّر جذريّاً الوجهة الاقتصادية الكندية، على مستوى الطاقة، والطاقة المتجددة، والبناء، ومد البنى التحتية وأنابيب النفط، وربط الاقتصاد الكندي المتمكن من التكنولوجيا والقوى العاملة المتخصصة، في بلد غنيٍّ بثرواته، بالحدود البحرية على الهادئ والأطلسي، وفتح شراكات مع أوروبا وآسيا.
فهل يتلقف ترامب خطورة “التحرر” الكندي من “الشراكة التاريخية” مع الحليف القريب، واتجاه كندا لبناء شراكة مصالح مع حلفاء بعيدين، كأوروبا، أو مع قوى عالمية أخرى في آسيا، كالهند واليابان مثلاً؟