جريدة الحرة
بقلم: محمد سعد عبد اللطيف ـ كاتب وباحث مصري في الشأن الجيوسياسي
أكتب لا ككاتب فقط، بل كمواطن عربي يشارك شقيقه العراقي أوجاع هذا الانهيار. فالعراق لم يكن يومًا بلدًا بعيدًا عنا، بل كان دومًا الوطن الثاني للمصريين.
كنا نحلم ببغداد كما نحلم بالقاهرة، ونحزن لما يصيبها كما نحزن لما يصيبنا.
ولسنوات، كانت أبواب العراق مفتوحة بلا تأشيرات أو عقود عمل، تستقبل آلاف المصريين ممن وجدوا فيه وطنًا حقيقيًا وفّر لهم الرزق والكرامة.
في ظل أوضاع مهزومة، وانكسارات متلاحقة، يحق للغالبية في مصر أن تحزن على بلدٍ كان المتنفس الوحيد أمام شريحة واسعة من الطبقة المتوسطة، ممن اعتمدوا في قوتهم اليومي على عمل أبنائهم في العراق.
وعندما يُقال إن العراق ينهار، فإن ذلك ليس شأنًا عراقيًا فقط، بل وجعًا عربيًا خالصًا. هو انكسار لحلم الوحدة، واندثار لرسالة حضارة، وغياب لقلب كان نابضًا بالثقافة والقوة والكرامة.
“الإنزال المسلّح للتفاوض”: مشهد من انهيار بطيء لدولة تُحتضر
في مشهد عبثي صار اعتياديًا، شهدت مدينة النجف “إنزالًا عسكريًا” أميركيًا قيل إنه جاء لأغراض التفاوض! وفد دبلوماسي أميركي يهبط بطائرات عسكرية في مدينة عراقية، لا لمواجهة مسلحة، بل للقاء مسؤولين محليين. ووسط صمت رسمي مريب، حاول مجلس الأمن القومي العراقي أن يقدّم التبرير المعتاد: “تنسيق مشترك، إجراء اعتيادي، لتوفير الوقت”! لكن السؤال الذي لا يمكن تجاوزه: هل يحق للعراق أن ينفّذ إنزالًا مسلحًا في واشنطن للتفاوض مع مسؤول محلي؟ وهل أصبحت السيادة تُقاس بعدد الهبوطات الجوية الأجنبية في أراضينا العربية المباحة للسلاح الجوي الأميركي؟
هذا الحدث ليس استثناءً، بل هو امتداد لمسار سياسي بدأ منذ احتلال العراق عام 2003. فمنذ ذلك التاريخ، لم يكن المشروع الأميركي مجرد تدخل عسكري، بل إعادة تصنيع كامل لدولة على المقاس الأميركي، كجزء من “الشرق الأوسط الجديد” ونموذج ديمقراطيات ما بعد الاحتلال.
وقد اختارت واشنطن للعراق نظامًا سياسيًا مبنيًا على المحاصصة والطائفية والتفكيك، لا على دولة وطنية حديثة. وما يحدث اليوم هو نتيجة متوقعة لمشروع بدأ بالهدم، واستمر بالفساد، ويُنهي فصوله بانهيار صامت ومدروس. لقد ظللنا نكتب منذ سنوات، ونحذر من لحظة الارتطام القادمة، لا حبًا في الخراب، بل لأن الواقع يفرض ذلك. ومع كل تحذير، كان يُطلب منا أن نكون “متفائلين”، أن نكتب عن الإصلاحات، عن المشاريع، عن الحلم الأخضر وسط الأنقاض!
لكن كيف يمكن بناء دولة بوهم التجميل؟ هل تُنقذ الدول عبر تحسين المجاري وطلاء الأرصفة، فيما تنهار البنية السياسية من الداخل؟ إن تحويل مأزق بنيوي إلى أخطاء إدارية يشبه محاولة علاج السرطان بالمسكنات. إن مشروع “العراق الجديد” الذي بشّرت به أميركا، لم يكن دولة حديثة، بل دولة رخوة، منهكة، قابلة للاستنزاف والتدوير. لا نظامًا سياديًا بل منظومة وظيفية لإدارة مصالح خارجية. لا مؤسسات بل واجهات شكلية تعمل ضمن “نظرية الاحتمال الأميركي” في ترويض الشعوب.
اليوم بعد عشرين عامًا، يطفو العفن إلى السطح، وتتعالى التحذيرات من انهيار وشيك، كما لو أن أحدًا اكتشف فجأة أن هذا النظام مشوّه من الجذور. لقد جسّدنا هذا الوعي في روايات، في مقالات، في دراسات، لأننا نؤمن أن الخيال جزء من صناعة المستقبل. لكن في هذا الوطن، تم اعتبار التحذير خيانة، والرؤية النقدية اضطرابًا نفسيًا، والمستقبل رفاهية لا تليق بمن يعيش على أطلال الخراب.
نحن لا نقف على أطلال نظام بحاجة إلى إصلاح، بل على جثة كيان سياسي تم تفصيله لينزف ببطء. وحين يُطرح اليوم إنقاذ هذا النموذج عبر تغيير بعض الوجوه، أو فتح ملفات الفساد الصغيرة، أو “تحسين أداء الدولة”، فنحن نمارس الوهم، لا السياسة.
الانهيار الذي نعيشه ليس وليد اليوم، بل هو نتيجة الإنهاك المنهجي والاستنزاف المتعمد. هو سقوط مركب: سياسي، اجتماعي، اقتصادي، أخلاقي، ولا يمكن بناء نظام سياسي فوق مجتمع محطّم يعاني سلسلة من الانهيارات.
الحل لا يكمن في الإنزال من السماء، ولا في ترقيع الحُطام، بل في إعادة كتابة العقد الاجتماعي، وصياغة الدولة من جديد، بعيدًا عن نموذج “الديمقراطيات المستوردة”، التي لم تنتج إلا حكومات فاسدة، وقوى طائفية، ومجتمعًا على حافة الانفجار.
نحن ركّاب قطار مات سائقه، وننتظر لحظة الارتطام. لكن ما زال في الوقت متّسع لنمسك بفرامل الوعي، ولنبدأ، لا بترميم الخراب، بل ببناء كل شيء من جديد، على أسس وطنية، سيادية، عقلانية، قبل أن يصبح الإنزال المسلح هو القاعدة، لا الاستثناء.
وفي هذا المشهد الملبد بالخوف واليأس واللاجدوى، لا غرابة أن تسمع أصواتًا عراقية تتساءل، همسًا أو جهارًا: “هل كنا حقًا أفضل؟ هل أخطأنا عندما هلّلنا للغزو؟ هل كان سقوط النظام السابق خلاصًا أم بداية سقوط أوسع؟” بل إن البعض، رغم القمع والخوف والمآسي التي ارتبطت بزمن صدام حسين، صار يردد بمرارة: “على الأقل كنا نحمل جواز سفر يحترمه العالم، كانت هناك دولة، ولو مرعبة، لكنها دولة”.
هذا ليس حنينًا إلى الاستبداد، بل خجل من واقع لا يُحتمل. واقع جعل الإنسان العراقي يشعر بالغربة في وطنه، وبالخذلان من نخب صمتت، وسلطة تتنكر، وواقع يصرخ كل يوم: “لقد خُدعتم، واستُنزفتم، وسُرقت أحلامكم باسم الحرية”.
أتذكر، خلال رحلة قطار من إيطاليا إلى ألمانيا، أنني كتبت قصة قصيرة عن “سيدة القطار” التي كانت تبكي لمجرد سماعها أغنية “يا وابور رايح على فين”. لم تكن تعرفني، ولم نتبادل الكلمات، لكن دموعها كانت كافية لتقول كل شيء. ربما تذكرت بلادًا لم تعد كما كانت، أو أبناءً فقدتهم، أو ببساطة، تذكرت عراقًا يشبه القطار… بلا سائق، يتجه نحو المجهول.
الندم لا يُغيّر التاريخ، لكنه قد يصنع وعيًا جديدًا، وعي يدرك أن التحرر لا يُمنح من طائرات، ولا تُبنى الأوطان على أشلاء الذاكرة والهوية، وأن الديمقراطية لا تُسقط بالمظلات، بل تُزرع في أرض حقيقية، تحرثها العدالة، وتسقيها الكرامة، ويحرسها شعب يعرف مَن هو، وماذا يريد!