الحرة بيروت ـ بقلم: محمد الشيخ، عميد ركن إداري متقاعد
تُعتبر أزمة الطاقة العالمية، التي تفاقمت بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، واحدة من أكبر التحديات التي تواجه القارة العجوز في الوقت الحالي. ومن المتوقع أن يؤدّي وقف إمدادات الغاز الروسي عبر خط الصداقة الأوكراني إلى تفاقم هذه الأزمة، مما يثير التساؤلات حول مستقبل الطاقة في أوروبا بالإضافة إلى ما ستؤول إليه الحرب الروسية الأوكرانية.
توقفت في الساعات الأولى من أول يوم من العام الجديد صادرات الغاز الطبيعي الروسي عبر خطوط الأنابيب التي تمر عبر أوكرانيا إلى أوروبا، وبذلك تم قطع أقدم طريق للغاز الروسي إلى أوروبا، الذي يعود إلى الحقبة السوفييتية، وهو الذي ينقل ما يقرب من نصف إجمالي صادرات الغاز عبر واحدة من شبكات خطوط الأنابيب الروسية إلى أوروبا.
على الرغم من الجهود التي بذلها الاتحاد الأوروبي لتأمين مصادر بديلة للغاز الروسي لتفادي حصول أزمة طاقة بعد العقوبات التي فرضت على روسيا كردّ على حملتها العسكرية في أوكرانيا مع الإبقاء على بعض الاتفاقات المعقودة سابقاً؛ فمن المتوقع أن تشهد القارة العجوز ارتفاعاً حاداً في أسعار الغاز بعد انتهاء مفعول اتفاقية نقل الغاز بين روسيا الممثلة بشركة “غازبروم Gazprom” وأوكرانيا ممثلةً بشركة “Naftogaz” عبر “شبكة الغاز الصداقة”، وإلى أزمة تدفئة في بعض دولها.
وكانت ألمانيا قد رعت توقيع هذا الاتفاق حيث تمكّن المفاوض “جورج غراف فالدارسي” الذي عيّنته حكومة “أنجيلا ميركل” للتوسط بين موسكو وكييف من التوصل في نهاية العام 2019 إلى اتفاقية مدتها خمس سنوات لتصدير 65 مليار م3 في العام 2020، و40 مليار م3 في الأعوام 2021-2024، ومن دون أن تتضمن الاتفاقية أي بند يضمن تجديد العقد.
تراجع اعتماد أوروبا على الغاز الروسي بشكل كبير منذ بداية الحرب في أوكرانيا، إلّا أن بعض دول أوروبا الشرقية لا تزال تتلقى معظم إمداداتها من موسكو. وبحسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية فإن أوروبا قد خفضت اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي بنسبة تصل إلى 75 في المئة، مقابل ارتفاع إمدادات الغاز النروجي إلى 9.5 مليار متر مكعب، وصادرات الغاز الطبيعي الأميركي المُسال إلى 15 مليار متر مكعب، بالإضافة إلى سبعة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي القطري كسعة إنتاج إضافية، ونحو أربعة مليارات متر مكعب من الجزائر ومصر وغيرهما.
وعلى الرغم من كل الإجراءات فإنه من المتوقع أن يؤدي وقف ضخ الغاز عبر خط الصداقة الأوكرانية، ليس فقط إلى تراجع إضافي لإمدادات الغاز الروسي الرخيص، بل إلى تباطؤ الاقتصاد الأوروبي بشكل كبير، كما إلى ارتفاع التضخم وتفاقم أزمة تكلفة المعيشة.
ومن دون الغوص في تحليل رغبة الطرفين الروسي والأوكراني في تمديد هذه الاتفاقية، فإن الواقع الجديد أضاف أعباءً إضافية في بداية فصل الشتاء الأوروبي على الدول الأوروبية وبالأخص الشرقية منها التي تستفيد مباشرة من هذا الخط، لا سيما على سلوفاكيا والمجر اللتين تعتمدان بشكل كبير على الغاز الروسي، فيما تعاني مولدوفا من وضع حرج مع عدم وجود حلول بديلة فورية ذات موثوقية.
وكان رئيس الوزراء السلوفاكي، روبرت فيكو، قد حذّر عقب زيارته غير المعلنة لموسكو في الثاني والعشرين من الشهر الماضي من العواقب الوخيمة التي ستترتب على وقف عبور الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا نتيجةً لخسارة بلاده 500 مليون يورو سنوياً كرسوم عبور للغاز الروسي المتجه نحو أوروبا، مُهدداً بوقف الدعم المالي للاجئين الأوكران في بلاده والذين يقدر عددهم بحوالي 130 ألف لاجئ.
وفيما أعلنت شركة “إس بي بي” السلوفاكية أنها ستزوّد عملاءها بالغاز عبر خطوط أنابيب من ألمانيا، إلّا أنها ستتحمل تكاليف نقل إضافية؛ بالمقابل، فإن المجر التي تستلم وارداتها من الغاز الروسي عبر خط أنابيب “تورك ستريم” عبر قاع البحر الأسود فلن تتأثر من هذا التوقف إلا بشكل جزئي رغم تصريح رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، بأنه “لا ينوي التخلي” عن هذا الخط.
أما مولدوفا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، فتُعتبر من الدول الأكثر تضرراً نتيجةً لوقف العمل بشبكة خط الصداقة الأوكراني، على الرغم من أن الخلافات حول تسديدها لمستحقات الغاز لشركة “غازبروم” الروسية قد أدت إلى وقف الشركة لإمدادات الغاز نتيجةً لفشل المفاوضات بينهما حتى قبل وقف ضخ الغاز عبر الخط الأوكراني.
وفيما دعت “كيشيناو” روسيا إلى وقف ابتزازها بسبب إعادة انتخاب رئيسة مولدوفا “مايا ساندو” لولاية رئاسية ثانية والتي تعتبرها موسكو موالية للغرب، أعلنت حالة الطوارئ نتيجةً لأزمة طاقة حادة في البلاد وإلى معاناة كبيرة للسكان المدنيين، لا سيما في المناطق الأكثر فقراً، وإلى الحاجة إلى إدخال تدابير للحد من استهلاكها للغاز بمقدار الثلث.
وعلى الرغم من أن هذا الوضع لا يطال سائر أنحاء مولدوفا بفضل المساعدة المقدمة من رومانيا، إلّا أن منطقة ترانسنيستريا الانفصالية الموالية لروسيا، والتي كانت تحصل على الغاز الروسي عبر أوكرانيا، فإنها تعاني من وضع صعب بسبب انتهاء اتفاقية العبور بين روسيا وأوكرانيا، حيث أعلنت شركة الطاقة المحلية “تيراسبول ترانس غاز” عن وقف إمدادات الغاز وقطع التدفئة مع استثناء المستشفيات، داعيةً السكان المحليين إلى إحكام إغلاق النوافذ وأبواب الشرفات عبر تعليق البطانيات أو الستائر الثقيلة عليها، ارتداء ملابس دافئة والتجمع في غرفة واحدة، واستخدام المدافئ الكهربائية مع ضرورة عدم استخدام وسائل تدفئة مرتجلة داخل المنازل خشية وقوع حوادث.
دفعت الضجة الكبيرة التي أحدثتها سلوفاكيا والمجر كمتضررتين جراء وقف ضخ الغاز الروسي عبر أوكرانيا وتداعيات الأزمة الجديدة على مولدوفا إلى تسليط الضوء مجدداً على أهمية مصادر بديلة للطاقة في أوروبا.
وبالرغم من زيادة النروج لإنتاجها من الغاز الطبيعي لطاقتها القصوى والتي لم يعد بإمكانها زيادة الإمدادات لبقية الدول الأوروبية وبريطانيا أكثر من الوضع الحالي، برزت أذربيجان مجدداً كلاعب رئيسي محتمل في سوق الغاز الأوروبية، لا سيما بعد ما أوردته وكالة “بلومبرغ” حول وجود رغبة أوروبية في مناقشة خيارات لزيادة تدفقات الغاز الأذربيجاني عبر أوكرانيا مقابل إبرام صفقات تبادل مع روسيا، لأنه، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، فإن باكو التي تمتلك احتياطيات من الغاز الطبيعي تُقدر بحوالي 1.3 تريليون متر مكعب تحتاج إلى وقت واستثمارات جديدة لتطوير حقول جديدة لرفع قدراتها الإنتاجية وبنيتها التحتية لتأمين نقلها، حيث من المتوقع أن يزداد إنتاج حقل “شاه دنيز” في بحر قزوين إلى 16 مليار متر مكعب إضافية سنوياً بحلول عام 2026.
ومع ذلك، تواجه هذه الخطط تحديات كبيرة، أبرزها العقوبات المفروضة على روسيا والتي تجعل من الصعب إبرام صفقات مبادلة معها، حيث قد يُنظر إلى ذلك على أنه محاولة للالتفاف على العقوبات، ويسمح لروسيا بالاستفادة المادية من ثرواتها الطبيعية.
مع قرب دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، تتزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على كلا البلدين بشكل كبير، ومن المتوقع أن يؤدي وقف ضخ الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى تعميق الصراع، زيادة الضغوط الاقتصادية، وإضعاف قدرة كليهما على مواصلة الحرب نتيجةً للخسائر المالية التي ترتفع بوتيرة متسارعة؛ حيث ستخسر أوكرانيا عائدات سنوية تقدر بـ800 مليون دولار كرسوم تدفعها روسيا لقاء استخدام الشبكة الأوكرانية، بالإضافة إلى حصولها على الغاز الروسي للاستخدام المحلي بأسعار منخفضة، فيما ستخسر روسيا نحو خمسة مليارات دولار قيمة مبيعات الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
من جهة أخرى، فإن انخفاض صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا وزيادة المنافسة من دول مثل أذربيجان الساعية للعب دور أكبر في قطاع الطاقة العالمي ودور سياسي في آسيا الوسطى، بالإضافة إلى التغييرات والتطورات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط التي أثرت على الدور الروسي في المنطقة، قد زاد من الضغوط على روسيا.
في ظل هذه الظروف الصعبة، يُطرح السؤال التالي: هل سيساهم وقف ضخ الغاز عبر خط الصداقة الأوكراني، إلى جانب الإعلان الأمريكي الجاد عن السعي لحل سلمي، إلى زيادة الضغط على روسيا وأوكرانيا على حد سواء؟ وهل سيحفّز هذا التطور أوكرانيا والاتحاد الأوروبي على التخفيف من مواقفهما المتشددة والجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل الدفع نحو تسوية لإنهاء الحرب أو أن ما حصل هو حلقة من حلقات هذا الصراع؟