بقلم: العميد الركن المتقاعد يعرب صخر
التقييدات والمحددات الإيرانية لحزب الله وجعله يتحرك وفقاً لها، وانصياعه التام دون مناقشتها التزاماً وتسليماً عقيدياً أعمى، وتجريد نفسه من هامش الحركة وحرية المناورة والتقرير وفق متطلبات ومتقلبات الأمور، وترك القرار لأمّه إيران، يسير بما تحدد له ويمتنع وفق نواهيها، ظناً، لا بل يقيناً راسخاً منه أنها لا تخطئ، كونها من أولدته وأنشأته ورعته، وهو موصول بوشائجها ومرتبط بها كحبل السرة…
كل ذلك وغيره قد عطّل بوصلته وجعله يدور حول نفسه، وقد قصم ذلك ظهره وقضى عليه قبل أن تقضي عليه إسرائيل. ثلاث تقييدات سبّبت لحزب الله أخطاءً استراتيجية قاتلة، بنت عليها إسرائيل إنجازات استراتيجية أكسبتها عناصر المبادرة والمبادأة والفرصة المثلى لتسديد الضربة القاصمة، بدءاً بخلخلة حزب الله كمرحلة أولى، تمهيداً لشلّ حركته وإنهاكه في مرحلة ثانية، قبل إنزاله في مرحلة ثالثة بالضربة القاضية:
- عدم انخراط حزب الله كما سائر الأذرع الإيرانية مع حماس في السابع من أوكتوبر تنفيذاً لأمر إيران، وقد كانت فرصة ذهبية توفرت فيها عناصر السرية والمباغتة والزمان والمكان المناسبين؛ وفي ذلك تنكّر واضح لمبدأ وحدة الساحات الذي أطلقه الممانعون، وعندما دقت ساعة الإختبار صمتوا جميعاً وتركوا حماس وحيدة تتلقى الإنتقام الإسرائيلي. في هذه اللحظات بدأت إسرائيل، بعدما استعادت المبادرة، تخطط لما بعد حماس، لأن عقيدة التفوق تزعزعت وعقدة الوجود اهتزت. ولاستعادة وترسيخ أمنها للعقود القادمة، لا بدّ لها من القضاء على أقوى مهدّد لها بعد حماس وهو حزب_إيران_في_لبنان، وهو لا يدري أن الدور آت عليه.
- فتح جبهة المشاغلة تعويضاً عن عدم الانخراط المباشر، كرفع عتب وذر الرماد في العيون أن حزب الله يساند حماس؛ فما نفعت غزة ولا أضرت بإسرائيل، كونها اقتصرت على الرميات القصيرة غير المؤثرة في شمال إسرائيل الخالية من المستوطنين. وبظنّ حزب الله أن حرب غزة ستكون كسابقاتها (أي حروب 2008 – 2012 – 2014 – 2021)، أي بضعة أسابيع وتنتهي إلى تسوية تكون فيها إيران مقرراً رئيسياً.
كان يمكن لهذه الجبهة لو كانت جدية واستخدمت وسائلها بوجهها الصحيح أن تؤذي إسرائيل وتجعلها تعيد حساباتها وتقبل بمخرجات تسوية تفيد غزة وتوقف النار. لكن الحزب ظل واقفاً بين الحرب واللاحرب بتوصية أمه إيران… وسيندم بعدها كثيراً كثيراً.
وخلال أسبوع احتشدت الأساطيل الحربية الأميركية والغربية في المنطقة، لأن أمن إسرائيل بات في خطر شديد. وسيندم كل محور الممانعة على ضياع الفرصة في فترة أسبوع ما قبل قدوم هذا الحشد، حيث ما بعده سيغير كل ما قبله. - ربط لبنان بغزة والثبات والمعاندة والمكابرة على هذه الفكرة، رغم أن الأمور هناك بدأت تميل بتسارع شديد لصالح إسرائيل على كل المستويات الميدانية والمعنوية والتفاوضية، والشعب الإسرائيلي خلف حكومته وكل مقدرات إسرائيل خلف العسكر.
حذّرت أميركا بواسطة هوكشتاين أن إسرائيل سوف توجه وجهها نحو لبنان بعد فراغها من غزة لضرب حزب الله، فلم يأخذوا التحذير بجدية؛ ولقطع الطريق على إسرائيل، قدّمت أميركا عرضاً لحزب الله وإيران بفصل ملف لبنان عن غزة وانسحاب 10 كلم خلف الحد اللبناني الفاصل مع إسرائيل، في تنفيذ جزئي للقرار الدولي 1701، دون الخوض في القرار 1559 القاضي بنزع سلاح الميليشيات. ولم يأخذوا بهذا العرض ورفضوه وظنّوا أنفسهم في موقع القوة، وأن إيران قوية و إسرائيل ضعيفة.
سيندمون كثيراً لأن الحديث بعدها سيكون في تنفيذ كل القرارات الدولية بكامل مندرجاتها، وحزب الله، خط الدفاع الأول عن إيران، بدأ يتصدّع. في كل ذلك وغيره، أخطاء استراتيجية ترتب عليها انهيارات إستراتيجية. الإمكانيات مهما كانت كبيرة وقوية، إن لم تقترن بالإستخدامات في حجمها ومكانها وزمانها الصحيح، سوف ترتد وبالاً على صاحبها.
حكومة إسرائيلية متطرفة. قبل السابع من أكتوبر كانت متهالكة ومنقسمة، لكن أتى هذا الهجوم ليحصنها ويقويها ويستغل إمكانياتها في أقصى استخداماتها؛ ومن وقفوا خلف الطوفان تخاذلوا وجبنوا ليتبيّن أن فلسطين عندهم مطية وليست قضية. وهمهم فقط السير بأوامر ونواهي أمهم إيران التي لا تعرف غير البيع والشراء، وعندما تخسر تجارتها تبيعهم، وتغرقهم هم بذاك الطوفان.
ما يفعله الآن حزب الله بعد انتكاسته الكبرى، كان عليه فعله قبل أن ينتكس، وكان بإمكانه تثبيت بعض وجوده. لكنه الآن بسبب غطرسته ومكابرته وانقياده التام لتوجيهات من صنعه وأسسه، وظنه أنه ملك اللعبة، تبين له أنه بيدق يضحّى به على رقعة الشطرنج.


