جريدة الحرة
لم تعد القوة في القرن الحادي والعشرين محصورة في فُوَّهات المدافع أو بُقَع النفط أو قواعد الجغرافيا، بل تحوّلت إلى “بايتات” تسري في أسلاك الإنترنت، وأكوادٍ تتخفّى في الخوارزميات، ومعلومةٍ قادرة على إسقاط نظام أو توجيه انتخابات من خلف الشاشات.
في هذا السياق الدولي المربك، يقدّم الدكتور خالد وليد محمود رؤية تحليلية معمقة في كتابه الجديد “الفضاء السيبراني وتحولات القوة في العلاقات الدولية، الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيث يعالج فيه ضمن 376 صفحة، كيف تحوّل الفضاء السيبراني إلى “ساحة خامسة للصراع الدولي”، جنبًا إلى جنب مع البر والبحر والجو والفضاء الخارجي.
ينطلق الكتاب من فرضية مركزية مفادها أن الفضاء السيبراني لا يقتصر على كونه مجرد مساحة تقنية، بل أصبح ميدانًا استراتيجيًا يعيد تشكيل قواعد اللعبة الدولية، ويوزّع الأدوار بطرق غير تقليدية، ويمنح فاعلين غير تقليديين أدوات تأثير غير مسبوقة، تُربك حسابات القوى العظمى وتعيد تعريف مفاهيم النفوذ والهيمنة.
هذا ويقع في قسمين رئيسيين موزعَين على أربعة فصول، يبدأ أولها بتأصيلٍ نظري لنشأة الفضاء السيبراني وتطوره منذ منتصف التسعينيات، ويطرح فيه المؤلف تحليلًا نقديًا لمفاهيم القوة التقليدية، مبينًا كيف بدأت تتراجع لصالح ما يُعرف اليوم بـ”القوة السيبرانية (CyberPower) –”، تلك التي تستمد نفوذها من المعرفة، والتكنولوجيا، والقدرة على التحكم في المعلومات والبيانات.
أما القسم الثاني، فيأخذ القارئ إلى قلب المعركة الرقمية الجيوسياسية، حيث يتنافس الكبار على امتلاك القدرات السيبرانية، ويغوص في تفاصيل سباق التسلّح الرقمي، من الهجمات السيبرانية والهندسة الاجتماعية، إلى السيطرة على الخوارزميات والبنى التحتية الحيوية. في هذا العالم، لم تعد الحروب بحاجة إلى دبابات أو طائرات، بل إلى ثغرة في شبكة أو رسالة بريد إلكتروني خادعة.
ومن القضايا اللافتة التي يعالجها الكتاب، مفهوما “انتقال القوة” و”انتشار القوة” وهما تحوّلان جذريان أتاحا لأطراف خارج نادي الكبار أن تلعب أدوارًا حاسمة في صياغة القرارات الدولية، سواء عبر التأثير الإعلامي، أو قرصنة البنوك والمؤسسات، أو حتى عبر تنظيم حملات تضليل واسعة باستخدام الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل.
ويبرز المؤلف كذلك الأثر العميق للبنية التحتية الرقمية في صياغة مستقبل العلاقات الدولية، مشيرًا إلى أن التحولات الجارية لا تؤدي فقط إلى تغيير أدوات القوة، بل تعيد تعريف معنى “الدولة القوية” في زمن لم تعد فيه الحدود مرئية، ولا التهديدات تقليدية. من كان يملك المعرفة يملك القوة، ومن يسيطر على البيانات يسيطر على الاتجاه.
ويقدّم الكتاب في ختامه مجموعة من التوصيات الهامة، من أبرزها الدعوة إلى بناء نموذج عربي لقياس القدرات السيبرانية، ودمج السياسة السيبرانية ضمن حقول الدراسات الدولية، وتعزيز المحتوى البحثي المتخصص باللغة العربية، بما يُتيح للعالم العربي أن يتحول من مجرد متلقٍّ إلى فاعلٍ في المشهد السيبراني العالمي.
كتاب ليس مجرد معالجة أكاديمية لتقنية جديدة، بل هو دعوة لفهم عميق لواحد من أخطر التحوّلات في تاريخ العلاقات الدولية، حيث بات الأمن، والسيادة، والتأثير، والحدود… يُصاغون على لوحات المفاتيح، وفي الخوادم السحابية، وليس فقط في ساحات المعارك أو أروقة الدبلوماسية.
ما يمنح هذا الكتاب فرادته حقًا، ليس فقط غِناه التحليلي، بل جرأته في فتح نوافذ على أسئلة وجودية تتجاوز الطابع التقني: من يمتلك زمام المبادرة في عالم تحكمه الشيفرات؟ هل نحن مهيأون للتعامل مع تهديدات لا تُرى بالعين المجردة؟ وكيف يمكن للعرب أن يصوغوا دورًا فاعلًا في مشهد دولي يُعاد تشكيله عبر أدوات غير تقليدية وسرعات تتجاوز الاستيعاب؟