د. جورج شبلي
جريدة الحرة ـ بيروت
انطلاقًا من التّوصيف الواقعي للمافيا، هل لا تزال موجودةً، بالفِعل، عندَنا؟
المافيا هي جماعة من العصابات القائمة على الجريمة، والتي لا تحترمُ، إطلاقًا، أيّ شكل من أشكال السّلطة. وهي تدير أنشطة غير مشروعة، في مجالات التّهريب، والمخدّرات، والقمار، وتبييض الأموال، والدّعارة، والأسلحة، والابتزاز… فضلًا عن عمليّات الخطف والقتل والتّهديد. وكثيرًا ما يتلطّى أركانها خلف ألقاب سياسية، أو رسميّة، أو رجال أعمال، ووراءَ واجهة قوامها المصارف، والفنادق، والكازينوهات، والمتاجر، وشركات التأمين، وسواها. ومؤخَّرًا، لم يعد رجال المافيا مجموعة سريّة تعمل في الخفاء، فقد نقلَت نشاطها الى العَلَن، وبشهرةٍ غير خافية على أحد.
في لبنان، هنالك دولة رديفة هي دولة المافيا، وكان من الطبيعي أن تكون موجودة بسبب النّظام القائم وهو نظام “الإينيبتوكراتيا”، أي نظام عدم الكفاءة، بمعنى أنّ غير الأكفّاء ينتخبهم غير الأكفّاء، ليحكموا غير الأكفّاء. وقد اخترق المافياويّون السّلطة الإينيبتوكراتيّة، بدرجة غير مسبوقة، إلى حدِّ أنّ مصالح المؤسّسات الرسميّة قد تداخلت مع مصالح المؤسّسات المافياويّة، فصار من الصّعب الفَصل بينهما. وقد أدّت العمليّات غير المشروعة باستغلال المال العام، والنّفوذ السياسي، إلى إثراء فاحش، وبَسط سلطة المافيا على إدارات الدولة، وبشكل مُمَنهج.
المافياويّون المعروفون يدّعون اتّصافهم بالنزاهة، وبأخلاقٍ طوباويّة أين منها طوباويّة القدّيسين، لكنّهم، في حقيقتهم، يُتلِفون النزاهة بارتباطهم بأعمال الاختلاس، وحماية النشاطات المشبوهة، والمحسوبيّات، وغسل الأموال، والإتجار بالممنوعات، وترويج الأدوية الفاسدة، والرّشوة، وكذلك، بعقد الصّفقات، وجَنيِ السّمسرات، على حساب الخزينة العموميّة وتنمية البلاد، ما يؤدّي، بالنتيجة، إلى تشويه استثمار مال النّاس، بل سرقته.
والأدهى، أنّ المافياويّين الذين يُلقون على أنفسهم ألقابًا رنّانة، يشكّلون تهديدًا مباشرًا للاقتصاد الوطنيّ، بتنظيم حركة التّهريب، من لبنان وإليه، وبتَجاوزِ السّلطات الضَّبطيَة، وكأنّ العُبور لم يتمّ أصلًا، أو بتزوير شهادات المنشأ، والفواتير، والمستندات الخاصة، ونوع المحتوى، فتمرّ من دون أن تُلاحَظ. وما يجري عبرَ المعابر غير الشرعية، وعبرَ المرافق، خير برهانٍ على ذلك.
إنّ أداء الدولة لم يزل باهتًا، مقصِّرًا، وكأنّ لا أثرَ لوجودها، ما أدّى، ولا يزال يؤدّي، حتمًا، إلى الفشل في كبح جماح الأعمال المافياوية، وعناصرها، وبالمقابل، الى إجهاض مشاريع التنمية والإصلاح. إنّ الدولة الضعيفة، وذات القدرة المشلولة، عن قصد، في صَدِّ الأخطبوطيّة المافياويّة، ومكافحة أنشطتها، هي ما ينمّي ظاهرة الارتكابات غير الشرعيّة، ووباء المافيا. إنّ عيّنات التّجاوز متوفّرة، والفضائح أيضًا، وهي تشكّل مؤشّرًا واضحًا على الفشل المؤَسَّسي، بل على الفساد المستشري في زوايا إدارات الدولة والتي انتقلَت إليها لَوثةُ المافيا بالعدوى.
إنّ أنشطة المافيا لا تزال مزدهرة، عندَنا، داخلَ الدولة وخارجَها، لذلك، أيّ رَفاهٍ مأمول لوطنٍ تتحكّم المافيات باقتصاده، وإنتاجه، وقراره، وخياراته، ولقمة عيش أهله، ومستقبل أجياله؟… إنّ الخلاص، حتى السّاعة، ضعيف، إِنْ لم نقلْ مستحيلاً، ولن يتمّ إلّا بقيامة دولةٍ فِعليّة، صادقة، جريئة، مُواجِهة، ذات اندفاعٍ عنفوانيّ، وخالية من بطانة السّوء، وغير مسحوقة، توصِلُ إلى وطنٍ نظيف يرتجيه الشّرفاء الحقيقيّون.


