د. مجيد مطر
جريدة الحرة ـ بيروت
أدى سقوط نظام بشار الأسد وانتصار قوى المعارضة السورية وقيام نظام سياسي جديد الى متغيّراتٍ جيوسياسية خطيرة، ما قبلها ليس كما بعدها. فنظام آل الأسد كان يؤدي وظيفةً إقليمية منسقة ومدروسة، تحت سقف المصالح الدولية التي تعايشت مع هيمنته على سوريا ولبنان، كثمنٍ لضبط التوازنات لناحية الصراع العربي ــ الإسرائيلي، ما مكّنه من لعب دور الشرطي المتجبّر في وجه فصائل المقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين، التي اعتبرها عدواً لدوداً، غير مسموحٍ له التحكم بالجبهات مع إسرائيل.
نجح ذلك النظام بفرض استراتيجيته، طيلة عقودٍ طويلة بالقوة العارية العسكرية والأمنية، مستفيداً من رضى إقليمي ودولي، ما جعل منه لاعباً مهماً، أثبت كفاءة عالية في الحفاظ على التوازنات، انطلاقاً من سيطرة مطلقة على جبهة الجولان، مقابل انفراده في الساحة اللبنانية التي أطلّ منها كقوة إقليمية استخدمت نفوذها في ابتزاز الدول العربية الخليجية منها على وجه الخصوص، فظهرت الى العلن الكثير من الخلافات، تارة مع الرئيس أنور السادات، وطوراً مع الرئيس صدام حسين، وكان لبنان ميداناً لها، لتتكشف لاحقاً الحقائق في دعمه العسكري والسياسي لإيران في حربها ضد العراق.
من نافل القول إن من يحكم الجغرافيا السورية يمكنه الظهور بمظهر الفاعل الإقليمي المؤثر، نظراً لأهمية هذه البلاد من الناحية الجيوبولتيكية، حيث الموقع يتحكم بجملة من المسارات التي تفرض حاكم سوريا حاضراً بقوة المكان. ودلائل ذلك الاهتمام العربي والدولي المنسق والمركز بالعملية السياسية داخل سوريا، وما يلقاه الرئيس السوري أحمد الشرع من تأييد علني، ليس سوى مؤشر مهم من مؤشرات السياسات الدولية والإقليمية في المنطقة واتجاهاتها المقبلة، صوب دول الجوار ولبنان منها، حيث بدأت تتكشف بعض المعطيات التي تشير إلى تبدل في شكل ومحتوى السياسة الدولية والإقليمية تجاه هذا البلد “السوريالي” الصغير. فما هي معالم ذلك التبدل وتأثيراته؟
عجز لبناني
يمكن من خلال مراقبة أداء المسؤولين اللبنانيين القول إن لبنان الرسمي لم يستوعب الى الآن حجم ومدلول المتغير السوري وتداعياته على لبنان، فما يزال هؤلاء في الأداء التقليدي نفسه، حيث القفز عن المشكلات بدلاً من مواجهتها، مطمئنين إلى فكرة غير واقعية تقول بثبات الاهتمام الدولي والعربي بلبنان وسط كل المستجدات وفي كل الظروف، وهذا ما يؤكد عجز السلطة عن تلمس ما هو واقعي بدلاً من الانغماس في التفكير الرغائبي القاصر والمضر بمصلحة لبنان واللبنانيين.
إن الحقيقة الغائبة عن بال هؤلاء أن تعامل المجتمعين العربي والدولي مع لبنان في حقبة الوصاية السورية، فضلاً عن أنه كانت تمليه مجموعة من الظروف والمعطيات، فإنه لن ولم يبقَ كما هو بعد سقوط النظام السابق، ومجيء نظام جديد، يعتبر حليفاً وركناً من أركان النظام العربي الإقليمي الجديد، بخلاف سلفه الذي ابتز العرب في أمنهم واستقرارهم السياسي والمجتمعي.
فمنذ خروج بشار الأسد من السلطة، وثمة شيء يتغير، فالظروف التي كانت تنطبق على لبنان قبل تهاوي المشروع الإيراني في المنطقة من البوابة السورية، قد لا تنطبق بالضرورة بعد ذلك، فقد نال لبنان دعماً عربياً ودولياً مستمراً وقوياً، لتحقيق توزان سياسي مع قوى الممانعة المسيطرة على لبنان، وقد كان يتمثل، برعاية تسويات سياسية توزع مناصب السلطة بين فريق سيادي وآخر ممانع، وكان هذا الدعم للبنان، ينم عن مصالح مشتركة لبنانية عربية، ودولية، تمنع من جهة السيطرة السياسية المطلقة على لبنان، ومن جهة أخرى تحقق توزاناً عربياً مقابل العامل الإيراني المتفوق لبنانياً عبر “حزب الله”. فعلى هذا المنوال نسجت العلاقات اللبنانية مع الخارج.
أولوية استقرار سوريا الجديدة
فبعد المستجد السوري ثمة معادلة جديدة في المنطقة، قد لا تعطي لبنان الامتيازات والتفضيلات ذاتها من باب تأكيد أن المصالح قد تبدلت، وأن التطورات فرضت دوراً جديداً ونوعياً لسوريا لن يبقى معها الوضع اللبناني في المعادلة الإقليمية والدولية كما هو، لا بل هناك تراجع للمكانة اللبنانية وسط تسارع في انضباط الإدارة السورية الجديدة فيما هو مطلوب منها دولياً وعربياً، بعد أن تحوّل تموضع أحمد الشرع إلى جانب العرب إلى ركيزة ضامنة للأمن القومي العربي، كما تفهمه الدول الخليجية، وتحديداً المملكة العربية السعودية باعتبارها راهناً الدولة العربية الأكثر تأثيراً في المنطقة، حيث جعلت من دعم النظام السوري الجديد هدفاً من أهداف سياستها الخارجية، فكلما استقر هذا النظام كلما ترسخ الاستقرار العربي.
وانطلاقاً من هذا الواقع سنجد أنه من المنطقي تعاطي النظام العربي الإقليمي مع لبنان وفقاً لهذه القاعدة، بحيث ثمة من يشير ألى أنه طالما لم تستقر الدولة اللبنانية، ولم وتنخرط في المعادلة الجديدة في المنطقة، وطالما أنها لم تخرج بالمطلق من دائرة النفوذ الايراني، قد يشكل ذلك، ولو احتمالياً، تهديداً ما على حكم الشرع، وسط سعيٍ إسرائيلي لتثبيت معادلات جديدة، قد تكون على حساب العرب في سوريا.
ويلاحظ بناءً على كل ما سبق، تجليات المطالب الدولية المتوافقة مع رغبة عربية شديدة بأن تقوم الحكومة اللبنانية بتطبيق بيانها الوزاري فعلياً، والانتقال به من حيذ القول الى حيز الفعل، وتطبيق اتفاق الطائف لناحية حصر حماية البلاد بقواها الذاتية، وإلّا لن يجد لبنان من يقف معه، حتى وإن تبدلت الخرائط.


