الحرة بيروت / د. عبده جميل غصوب*
في 23 تشرين الثاني 2017، تعرّض زياد عيتاني للتوقيف القسري على يد جهاز أمن الدولة اللبناني، مما شكّل بداية واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان في لبنان، خاصةً في ما يختص بممارسات التعذيب والتوقيف غير القانوني. خلال التحقيقات، تعرّض عيتاني لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، مما أدى إلى انتزاع اعترافات مفبركة شملت قصة وهمية عن فتاة مزعومة تدعى “كوليت”، وفيديوهات جنسية مختلقة، وهو ما قوبل برد فعل قوي من الرأي العام.
رغم محاولات عيتاني إلغاء إفادته والاعتراف ببراءته، فقد تمّ إجباره على توقيع المحضر بعد تعذيب دام لمدة 22 ساعة. من جانبها، تعاملت وسائل الإعلام مع قضيته بشكل واسع وساهمت في نشر شائعات وتكهنات حول التهم الموجهة إليه، مما أدى إلى عزله في الحبس الانفرادي لفترات طويلة، ومنعه من التواصل مع محاميه وأسرته. في وقت لاحق، وتحت ضغط من فرع المعلومات، تبيّن أن التهم كانت مفبركة من قِبل المقدّم سوزان الحاج، والمقرصن إيلي غبش، وذلك بدافع الانتقام المهني، مما أدى إلى إدانتهما في وقت لاحق بتهمة تلفيق التهم. في 13 آذار 2018، تم إطلاق سراح عيتاني، وفي 29 أيار 2018 أسقطت المحكمة التهم الموجهة إليه.

منذ ذلك الحين، واجه زياد عيتاني مساراً طويلاً من الملاحقات القضائية. في 20 تشرين الثاني 2018، قدّم شكوى ضدّ المتورطين في القضية، لكن شكواه تنقلت بين النيابات العامة العسكرية والمدنية دون أن يتم البت فيها. في عام 2020، رفع عيتاني دعوى أمام مجلس شورى الدولة مطالباً بتعويض قدره 500 مليون ليرة لبنانية عن الأضرار الناتجة عن الإخفاقات الأمنية والإدارية والقضائية التي تعرّض لها، حيث قام المجلس بتقسيم المسؤوليات بين ما هو ضمن اختصاصه وما هو خارجه.
الأخطاء الخارجة عن اختصاص مجلس شورى الدولة
من خلال الدعوى المقدّمة، تطرّق زياد عيتاني إلى عدة أخطاء ارتكبها جهاز أمن الدولة أثناء التحقيق معه. تشمل هذه الأخطاء انتهاك المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تضمن للمتهم حقوقاً أثناء التحقيقات، إضافة إلى ادّعاء عيتاني تعرضه للتهديد والإهانة والتعذيب. كما أشار إلى خرق صلاحيات مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية التي سمحت بإجراء التحقيقات الأولية دون التقيد بالقوانين المعمول بها. كذلك، أشار إلى فرض الحبس الانفرادي عليه وحرمانه من التواصل مع محاميه وأسرته، بالإضافة إلى تسريبات إعلامية تتعلق بالتحقيقات.
من جانبه، ردّ مجلس شورى الدولة على هذه الادّعاءات بأن القضايا المتعلقة بأعمال الضابطة العدلية، مثل التحقيقات مع المشتبه بهم أو استخدام أساليب تعذيب، تقع خارج اختصاصه. وأكد المجلس أنه ينظر فقط في القضايا المرتبطة بالضابطة الإدارية التي تتعلق بإدارة شؤون الدولة على المستوى التنظيمي والإداري. وبالتالي، يعتبر أن القضايا المرتبطة بالأعمال القضائية، مثل تلك المتعلقة بالتعذيب أو انتهاك حقوق المتهمين، يجب أن تُنظر أمام القضاء العدلي وليس القضاء الإداري.
وفي ما يتعلق بالاتهامات التي تم توجيهها إلى القضاة العدليين، مثل مفوض الحكومة والقضاة في النيابات العامة، أكد المجلس أن هذه القضايا تخرج عن اختصاصه، ويجب أن تتم محاكمتها أمام القضاء العدلي. من هنا، يجب التمييز بين الأعمال القضائية التي تتعلق بممارسة الوظيفة القضائية، وهي من اختصاص القضاء العدلي، وبين الأعمال الإدارية التي تتعلق بتنظيم مرفق القضاء، والتي هي ضمن اختصاص مجلس شورى الدولة.
الأخطاء الداخلة في اختصاص مجلس شورى الدولة
رغم تقييد اختصاصه في بعض القضايا، اعترف مجلس شورى الدولة بوجود بعض الأخطاء التي تقع ضمن نطاق اختصاصه، خاصة تلك التي تتعلق بالإخفاقات الإدارية التي تسببت في أضرار جسيمة للمستدعي. من أبرز هذه الأخطاء كان امتناع الدولة عن اتخاذ التدابير اللازمة لحظر “الغرف السوداء” التي يتم فيها تعذيب المعتقلين، وكذلك فشلها في حماية قرينة البراءة وحماية سرية التحقيق.
أ ـ امتناع الدولة عن حظر أعمال التعذيب
طالب زياد عيتاني بتعويض عن الضرر الذي لحق به نتيجة التعذيب الذي تعرض له في “الغرفة السوداء” داخل جهاز أمن الدولة. وعلى الرغم من أن الدولة لم تنكر وجود هذه الغرفة أو الأدوات المستخدمة في التعذيب، إلا أنها لم تقدّم أي دليل على عدم وجودها، بل اكتفت بتبرير توقيفه بناءً على مزاعم غير صحيحة. وفي ما يتعلق بممارسات التعذيب، أشارت المحكمة إلى أن الإفادة التي أدلى بها عيتاني لم تكن ناتجة عن إرادته الحرة، بل كانت نتيجة التعذيب الذي تعرض له. وأكد مجلس شورى الدولة أن الدولة تتحمل المسؤولية عن الضرر الناتج عن امتناعها عن حظر هذه “الغرف السوداء” وعن تعذيب المعتقلين بشكل عام، وهو ما يعد انتهاكاً صريحاً للقوانين المحلية والدولية المناهضة للتعذيب، بما في ذلك قانون رقم 65/2017 المتعلق بحظر التعذيب.
ب ـ امتناع الدولة عن حماية قرينة البراءة

من بين الأخطاء التي ارتكبها جهاز أمن الدولة، كان فشله في الحفاظ على سرية التحقيق وحماية قرينة البراءة. فقد تم نشر تسريبات إعلامية تتعلق بتفاصيل التحقيق، مما أثّر سلباً على سمعة عيتاني وحقوقه الشخصية. وهذه التسريبات تسببت في اتهامات علنية له بالعمالة، وهو ما كان له تأثير كبير على حقوقه وحرياته، خاصة وأن الجهاز المسؤول عن مراقبة وسائل الإعلام، أي المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، لم يقم بأي خطوة لمواجهة التسريبات ونشر تفاصيل التحقيقات الأولية وما أدّت إليه من انتهاك وإساءة لقرينة البراءة وتشهير وفضح للخصوصيات، وذلك عملاً بالمادة 3 من قانون تنظيم وسائل الإعلام المرئي والمسموع الذي يعطي المجلس الوطني للإعلام حق الاقتراح على وزير الإعلام باتخاذ تدابير بحق المؤسسات المخالفة.
كما أن المجلس الأعلى للدفاع، الذي يتولى الإشراف على جهاز أمن الدولة، لم يتخذ أي تدابير لتصحيح أخطاء الجهاز أو محاسبة المسؤولين عن التسريبات. وخلص المجلس إلى أن الدولة تتحمل المسؤولية عن الأضرار التي لحقت بزياد عيتاني نتيجة فشلها في حماية حقوقه الأساسية.
ج ـ امتناع الدولة عن إجراء الملاحقات والتحقيقات
رغم صدور قرار بعدم محاكمة زياد عيتاني وتبرئته من التهم الموجهة إليه، إلا أن الدولة لم تتخذ أي إجراءات للتحقيق مع المسؤولين عن تلفيق التهم ضده. كذلك، ورغم صدور اعتذار رسمي علني من رأس السلطة التنفيذية عن الخطأ الذي ارتكب بحق عيتاني، إلا أن الدولة لم تتخذ أي تدابير مسلكية أو قضائية ضد المخالفين. وفي وقت لاحق، تم منح ترقيات استثنائية لضباط من جهاز أمن الدولة الذين كانوا متورطين في ارتكاب المخالفات بموجب المرسوم رقم 6853، تاريخ 14/8/2020، مما يظهر تقاعس الدولة في تحمل مسؤوليتها القضائية والإدارية.
د ـ الأضرار
وفقاً لقرار مجلس شورى الدولة، تم تحديد الأضرار التي لحقت بزياد عيتاني، حيث تمثلت في أضرار جسدية ومعنوية. الأضرار الجسدية شملت التعذيب الذي تعرّض له في “الغرفة السوداء” بما فيه التعليق والكرباج والربط بجنازير والركل وكسر ثلاثة أضراس والتقييد من القدمين حتى العنق. بينما تمثلت الأضرار المعنوية في تأثير تسريبات التحقيقات على سمعته وحقوقه الشخصية. وفي ضوء هذه الأضرار، قرر مجلس شورى الدولة تعويض عيتاني بمبلغ 480 مليون ليرة لبنانية.
تقييم الأضرار
في قراره الأخير، حمّل مجلس شورى الدولة الدولة اللبنانية مسؤولية أخطائها في ملف تعسفي، من دون اعتبار هذه الأفعال من قبيل “الأعمال الحكومية” الخارجة عن رقابة القضاء، مؤكّداً أولوية مبدأ المشروعية. وقد بُني الحكم على أفعال سلبية تمثّلت بامتناع الدولة عن حظر التعذيب، حماية قرينة البراءة، وإجراء الملاحقات، ما شكّل ضرراً جسدياً ومعنوياً للمستدعي. القرار أتى ليكرّس مسؤولية الدولة عن تجاوزات مرفق الأمن، لا سيّما مع الإفراط المتزايد في صلاحيات بعض عناصره، ما يقتضي المحاسبة لا الاكتفاء بالاعتذارات السياسية. كما أضاء القرار على خطورة غرف التحقيق غير القانونية، مثل “الغرفة السوداء”، والتي لم تُعاقب الدولة المسؤولين عنها رغم خطورتها. وانطلاقاً من مبدأ وحدة الإنسان نفساً وجسداً، أقرّ المجلس بالتعويض عن الضررين المعنوي والجسدي معاً، في سابقة قضائية تعيد الاعتبار لكرامة المواطن، وتشكّل دعوة واضحة للدولة للقيام بواجباتها في كبح تعسف أجهزتها ومحاسبة المخالفين، علّها تفعل ذلك ولو مرة.
يمثل قرار مجلس شورى الدولة في قضية زياد عيتاني خطوة هامة نحو تحميل الدولة المسؤولية عن تقاعسها في حماية حقوق الإنسان وحريات المواطنين. عبر هذا القرار، أصبح القضاء الإداري رقيباً على سوء إدارة مرافق الدولة، ويشكل بارقة أمل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان من قِبل الأجهزة الأمنية. بالإضافة إلى ذلك، يساهم هذا القرار في إعادة تأكيد أهمية الحفاظ على الحريات العامة في لبنان، ويؤكد على أن الأمن يجب أن يكون أداة لحماية الحريات، وليس لتقييدها أو انتهاكها، وأن “الغرف السوداء” بعيدة كل البعد عن ثقافتنا السياسة والاجتماعية وهي موروثة عن أنظمة قمعية غابرة في محيطنا.
*بروفسور لدى كليات الحقوق، مستشار قانوني في الإمارات العربية المتحدة ـ دبي، خبير قانوني دولي معتمد لدى عدة منظمات قانونية دولية.
لتصفّح العدد كاملاً: https://hura7.com/?p=49848
للاطّلاع على الدراسة كاملة: https://hura7.com/?p=49890