الحرة بيروت ـ خاص
التزم الإتحاد الأوروبي بتقديم مساعدات مالية إلى لبنان في إطار برنامج يهدف إلى تحقيق استقرار اقتصادي وإدارة أزمة اللاجئين. غير أن هذه المساعدات مشروطة بإصلاحات اقتصادية ومؤسسية يواجه لبنان صعوبات في تنفيذها. وقد أدّى هذا التعثر إلى تجميد جزئي لحزمة التمويل المقدّرة بمليار يورو، حيث تعتبر بروكسل أن التقدم في الإصلاحات المطلوبة لا يزال محدوداً.
في آب/أغسطس الماضي، أقرّ الاتحاد الأوروبي الدفعة الأولى من هذه المساعدات، والبالغة 500 مليون يورو، لدعم نظام الحماية الاجتماعية، واستقرار السوق النقدية، وتمويل البنية التحتية الأساسية. غير أن الدفعة الثانية لا تزال معلّقة في انتظار تنفيذ الإصلاحات التي يطالب بها الاتحاد الأوروبي.
شروط أوروبية صارمة
خلال المفاوضات بين المسؤولين الأوروبيين واللبنانيين، برز شرطان رئيسيان للحصول على المساعدات المالية الكاملة:
- إعادة هيكلة القطاع المصرفي: يعاني القطاع المصرفي اللبناني من أزمة حادة منذ عام 2019، حيث توقفت البنوك عن السماح للمودعين بسحب أموالهم بحرية، مع تسجيل خسائر ضخمة في الميزانيات العمومية. ويطالب الاتحاد الأوروبي بإصلاحات جذرية تشمل تعزيز الشفافية المالية وتحسين قواعد الحوكمة.
- التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي (IMF): يضغط صندوق النقد الدولي منذ سنوات على لبنان لاعتماد إصلاحات هيكلية تعيد الثقة للأسواق وتمهد الطريق لتمويلات دولية جديدة. لكن الخلافات السياسية والمصالح الاقتصادية حالت دون تحقيق أي تقدم ملموس.
هذا وكان دبلوماسي أوروبي مشارك في المفاوضات قد صرّح قائلاً: “من الضروري أن يعتمد لبنان إصلاحات هيكلية قبل الاستفادة من أي دعم مالي إضافي. لا يمكننا ضخ أموال في نظام يفتقر إلى الشفافية والكفاءة”.
أزمة سياسية تعرقل الإصلاحات المطلوبة
يمثل الجمود السياسي العقبة الكبرى أمام تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. فلبنان يعاني من انقسامات حادة في المشهد السياسي، حيث تطغى المصالح الفئوية والطائفية على المصلحة الوطنية، ما يعقد أي محاولة للإصلاح الاقتصادي.
منذ اندلاع الأزمة المالية والمصرفية عام 2019، فشلت الحكومات المتعاقبة في الاتفاق على استراتيجية واضحة لإنقاذ الاقتصاد، ما أدى إلى إهدار فرص ثمينة للحصول على دعم صندوق النقد الدولي. وقد زادت هذه المماطلة من فقدان ثقة الشركاء الدوليين، وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي، الذي بات يرفض تقديم أي دعم مالي جديد دون ضمانات إصلاحية واضحة.
القطاع المصرفي: بين التعثر والإصلاحات المطلوبة
يعدّ إصلاح القطاع المصرفي أحد أبرز التحديات التي تواجه لبنان، إذ كان هذا القطاع في السابق أحد أقوى القطاعات المصرفية في المنطقة، لكنه الآن على حافة الانهيار فيما يواصل كبار المسؤولين في القطاع المصرفي عرقلة أي إصلاحات حقيقية لتجنب تحمّل الخسائر.
الحكومة اللبنانية اقترحت نهجاً تدريجياً لإعادة هيكلة الدين العام واستعادة ملاءة البنوك، لكن هذا الطرح واجه رفضاً من المؤسسات المالية الكبرى، التي تطالب بأن تتحمل الدولة الجزء الأكبر من الخسائر. غير أن هذا الخيار غير مقبول سياسياً واجتماعياً، نظراً إلى أنه قد يؤدي إلى تحميل الشعب اللبناني أعباء مالية إضافية في ظل واقع اقتصادي منهار.
مسؤول سياسي رفيع المستوى عبّر عن هذا المأزق بالقول: “الحقيقة أن لا أحد يريد تحمل مسؤولية هذه الأزمة. لا البنوك، ولا الدولة، ولا النخب الاقتصادية. وفي هذه الأثناء، المواطنون هم من يدفعون الثمن الباهظ”.
الشروط الأوروبية: تعاون أم تدخل سياسي؟
يواجه التعاون بين لبنان والاتحاد الأوروبي توترات متصاعدة، حيث تعتبر بعض الأطراف اللبنانية أن المساعدات الأوروبية تُستخدم كأداة ضغط سياسي أكثر من كونها دعماً حقيقياً لتنمية البلاد.
في المقابل، ترى بروكسل أن الدعم المالي يجب أن يرتبط بتنفيذ إصلاحات جادة، لا سيما في ظل الاتهامات المتزايدة بسوء إدارة الأموال العامة والفساد المؤسسي.
أحد المسؤولين في المفوضية الأوروبية أوضح الموقف الأوروبي قائلاً: “لا يمكننا الاستمرار في تمويل نظام مصرفي متعثر يرفض تحمل مسؤولياته، ويرفض الإصلاحات الأساسية التي من شأنها أن تعيد الاستقرار إلى الاقتصاد اللبناني”.
من جهة أخرى، يعزو بعض المسؤولين اللبنانيين هذا التشدد الأوروبي إلى مصالح سياسية خاصة، حيث يسعى الاتحاد الأوروبي للحدّ من تدفق اللاجئين السوريين إلى أراضيه، ما يجعله حريصاً على استقرار الوضع في لبنان.
بدوره، أحد الوزراء اللبنانيين، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، صرح: “أوروبا تريد فرض سياستها الاقتصادية علينا مقابل مساعدات مالية تخدم في النهاية مصالحها أكثر من مصلحتنا. نحن بحاجة إلى شراكة حقيقية، لا إلى ضغوط اقتصادية مستمرة”.
أي مستقبل للبنان في ظل الأزمة الاقتصادية؟
لبنان اليوم عالق بين خيارين صعبين:
- تنفيذ الإصلاحات المطلوبة والاستفادة من المساعدات المالية، لكن بثمن سياسي واجتماعي باهظ.
- الاستمرار في الوضع الحالي، ما يعني مزيداً من العزلة الاقتصادية والانهيار التدريجي للدولة.
بين هذين الخيارين، يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن الطبقة السياسية اللبنانية من تجاوز خلافاتها واتخاذ القرارات الضرورية لإنقاذ الاقتصاد، أم أن الجمود السياسي سيبقى العائق الأساسي أمام أي حل؟
الوقت وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن استمرار الأزمة دون حلول جذرية سيؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي، مع ارتفاع معدلات الفقر والهجرة، وتآكل ما تبقى من ثقة داخلية وخارجية بقدرة لبنان على النهوض مجدداً.