جريدة الحرة
خاص ـ أدلى الجنرال كريستوفر دوناهو، قائد القوات الأميركية في أوروبا وأفريقيا، بتصريحات لافتة، تزامنًا مع إعلان حلف شمال الأطلسي عن خطة دفاعية جديدة موجّهة نحو الجناح الشرقي، وذلك خلال مؤتمر LandEuro الافتتاحي، الذي نظمته جمعية الجيش الأميركي في يوليو/تموز 2025.
قلق متصاعد من التهديد الروسي المستمر
يأتي هذا التحرّك في ظل تنامي المخاوف الغربية من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يوسّع عملياته العسكرية لتطال أراضي حلف الناتو، في حال لم يُواجَه بحزم في أوكرانيا. وهذه المخاوف ليست وليدة اللحظة، إذ عبّر عنها مرارًا كلٌّ من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والأمين العام لحلف الناتو مارك روته، الذي شدّد على أن “الردع لا يكفي وحده ما لم يكن مدعومًا بإجراءات ردعية حقيقية ومتكاملة”.
تعكس تصريحات دوناهو وقادة الحلف تصاعد القلق من التهديد الروسي المستمر، خاصةً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، التي شكّلت لحظة مفصلية في الأمن الأوروبي، وأعادت الاعتبار إلى مفاهيم الردع العسكري التقليدي. وعلى مدار عامي 2023 و2024، نفّذت روسيا سلسلة من العمليات العدائية، شملت هجمات سيبرانية، وحملات تضليل إعلامي، ومحاولات لزعزعة استقرار أنظمة ديمقراطية في عدد من الدول الأوروبية.
وفي هذا السياق، بدأ حلف شمال الأطلسي إعادة تقييم استراتيجيته الدفاعية. ووفقًا لتقرير نشرته مجلة Defense News، تسعى استراتيجية “خط الردع الشرقي” إلى تحويل الحلف من حالة السلام إلى “الاستعداد الدائم للحرب”، بهدف ردع أو صد أي محاولة روسية للاستيلاء على أراضٍ تابعة لدول الحلف، ولا سيما في منطقة البلطيق، وبولندا، ورومانيا.
تحديات السنوات الخمس المقبلة
يحذّر مسؤولو الدفاع والاستخبارات في الحلف من أن روسيا قد تشكّل تهديدًا مباشرًا لأراضي الناتو خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يفرض اتخاذ تدابير عاجلة واستثمارات كبيرة في القدرات الدفاعية. وتكمن الخطورة في أن روسيا، رغم العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، لا تزال تحتفظ بقدرات عسكرية متقدمة، وتواصل تحديث ترسانتها التقليدية وغير التقليدية، بما في ذلك الأسلحة النووية التكتيكية.
وقد وصفت المراجعة الاستراتيجية الوطنية الفرنسية روسيا بأنها “التهديد الأكثر مباشرةً للاستقرار الأوروبي”، في توصيف يعكس إجماعًا أوروبيًا متناميًا على ضرورة التعامل مع موسكو بمنطق الردع الصلب، لا بالوسائل الدبلوماسية وحدها.
ما هي خطة الردع الشرقي؟
أوضح الجنرال دوناهو أن خطة الردع الجديدة لحلف الناتو تركز على عدّة محاور رئيسية، منها:
-
تعزيز القدرات البرية: رفع جاهزية القوات وتحديث البنية التحتية العسكرية في دول المواجهة.
-
تحسين التشغيل البيني: توحيد أنظمة الأسلحة والقيادة والسيطرة لضمان فعالية العمليات المشتركة.
-
التحول الرقمي: اعتماد الذكاء الاصطناعي والأنظمة المؤتمتة لتعزيز سرعة وكفاءة الاستجابة.
-
خفض التكاليف التشغيلية: تحقيق فعالية ردعية أعلى بتكاليف أقل من خلال توحيد المنظومات.
وفي حديثه عن منطقة كالينينغراد، وهي منطقة استراتيجية محاطة ببولندا وليتوانيا، قال دوناهو: “الحلف بات يملك القدرة على تدميرها من الأرض بسرعة غير مسبوقة”، مضيفًا: “لقد خططنا لذلك وطورنا هذه القدرات بالفعل. المشكلة التي تمثلها كتلة الزخم الروسي باتت اليوم تحت السيطرة بفضل أدواتنا البرية”.
كالينينغراد: أكثر المناطق تحصينًا في أوروبا
تبلغ مساحة كالينينغراد نحو 47 ميلاً فقط، لكنها تحوّلت خلال العقود الماضية إلى واحدة من أكثر المناطق تحصينًا في أوروبا. فمنذ نهاية الحرب الباردة، عمدت موسكو إلى تعزيز تسليح المنطقة بشكل مكثّف، بما في ذلك نشر صواريخ “إسكندر” القادرة على حمل رؤوس نووية، وأنظمة دفاع جوي متقدمة من طراز S-400، وأسطول بحري مزوّد بصواريخ دقيقة.
وقد حذر عدد من المسؤولين الروس، من بينهم النائب ليونيد سلوتسكي، من أن أي هجوم يشنّه الناتو على كالينينغراد “سيُعتبر هجومًا مباشرًا على روسيا”، متوعدًا بـ”إجراءات انتقامية، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية”.
لماذا تُعد كالينينغراد تهديدًا مباشرًا؟
تقع كالينينغراد في قلب أراضي الناتو، ما يمنح روسيا قدرة على تنفيذ ضربات مباغتة على دول البلطيق وبولندا، فضلًا عن دورها كقاعدة خلفية للعمليات البحرية في بحر البلطيق. ويؤكد محللون عسكريون أنها تمنح موسكو “عمقًا استراتيجيًا” في مواجهة توسع الحلف، لكنها في الوقت نفسه تبقى نقطة ضعف يمكن أن تشعل شرارة مواجهة واسعة في حال أي سوء تقدير.
وفي هذا السياق، قال الجنرال دوناهو: “نعلم تمامًا ما الذي نحتاج إلى تطويره. الردع البري بات هو الأساس، لا سيما مع القدرة الجديدة على تدمير أنظمة منع الوصول، بل وحتى السيطرة على البحر من الأرض. هذه المعطيات نراها تتجسد ميدانيًا في أوكرانيا”. وفي المقابل، قال سلوتسكي: “الهجوم على كالينينغراد هو بمثابة هجوم على روسيا، وسنرد عليه بكل الوسائل”. فيما حذّر الرئيس زيلينسكي قائلاً: “إذا لم نوقف بوتين، فسيواصل التقدم، وهذا قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة”.
إلى أين يتجه الوضع؟
يعكس إعلان خطة الردع الجديدة لحلف الناتو، والتصريحات الحادة للجنرال دوناهو، تحوّلًا في العقيدة الدفاعية الغربية، من منطق “الردع بالتحذير” إلى “الردع بالجاهزية الفعلية”. فالتقديرات الغربية لم تعد تستبعد احتمال أن تسعى روسيا إلى اختبار تماسك الحلف، إما عبر عمليات هجينة أو من خلال مواجهات تقليدية محدودة، خصوصًا في المناطق الحساسة كدول البلطيق أو بولندا.
ويُتوقع أن تكون السنوات الخمس المقبلة مفصلية، إذ يُرجّح أن تشهد تسارعًا في سباق التسلّح الإقليمي، وعودة لأجواء الحرب الباردة بصيغة جديدة: سيبرانية، رقمية، وهجينة. وقد تسعى موسكو إلى استباق التحركات الغربية عبر تعزيز وجودها في مناطق مثل كالينينغراد، أو عبر تحريك جبهات بديلة سياسية وعسكرية. أما إذا فشلت جهود الردع في كبح الطموح الروسي، فقد ينزلق الوضع إلى أزمة مفتوحة.


