الخميس, نوفمبر 6, 2025
23.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

النظام السياسي اللبناني بين مأزق الانهيار وتغوّل منطق الميليشيا: دعوة إلى إعادة التأسيس

بسام ضو

 

جريدة الحرة ـ بيروت

النظام السياسي هو الرمز الأساسي لتركيبة الدولة، وتزداد أهميته لكونه يُعبّر بدقّة عن ممارسة السلطة وفقاً للنصوص الدستورية، القوانين المرعية الإجراء، وشرعة حقوق الإنسان. إلا أن النظام السياسي اللبناني اليوم يمرّ بمرحلة بالغة الخطورة، وما يزال يرزح تحت وطأة التدخلات الخارجية على مختلف المستويات: الداخلية، الإقليمية، والدولية.

وبحسب المعطيات الراهنة، واستناداً إلى الأداء السياسي القائم، بات هذا النظام غير قابل للحياة، بعد سنوات طويلة من الحروب الخارجية وسوء تقدير الحكّام، فضلاً عن الارتهان الواضح للخارج.

في مركز أبحاث PEAC، ترسّخت على أرض الواقع فرضيات واستنتاجات عديدة توصّل إليها المركز وبعض مراكز الأبحاث الأخرى، وقد ثبت بشكل قاطع أن الطبقة السياسية الحاكمة طبقة فاشلة، فاسدة، مفسدة، وعاجزة فكرياً، لا تحرّكها سوى المصالح الضيّقة، والمنفعة المالية، والتبعية السياسية. وقد بات من المؤكد أن النظام السياسي يترنّح، ويقترب من السقوط الوشيك.

إنّه نظام مهترئ، مرتبط بمشروع عمالة للخارج، تُميّزه صفات الجبن، والعار، والانحطاط السياسي. كما يتصل بمشروع هيمنة ممنهجة على الجغرافيا اللبنانية. وتؤكّد الوقائع الميدانية راهناً أنّ الإبقاء على هذا النظام العفن والمتوارث محاولة بائسة يُروّج لها أمراء الواقع وجهلة الفكر السياسي.

وتُشير التطوّرات الراهنة بوضوح إلى أنّ المسارات السياسية، الأمنية، الاقتصادية، المالية، والاجتماعية لا تسير على ما يُرام، لا سيما بعد انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة العهد الأولى. فالهوة تتّسع بين النظام السياسي القائم والمجتمعين العربي والدولي.

وفي هذا السياق، يُشكّل السلاح غير الشرعي العقبة الأكبر أمام مسار الدولة، خاصة في مستهلّ العهد الجديد الذي يُقال إنّه يسعى إلى تطبيق خطاب القسم والبيان الوزاري. غير أن الصراع حول تطبيق القانون يبدو مفتوحاً، وسط تعنّت واضح من قبل مسؤولي الميليشيا بشأن تسليم السلاح.

لكن، وللإنصاف، ثمة مشكلات أعمق وأخطر من السلاح، كشبكة مدارس “المهدي” والأجيال التي تخرّجها، والمؤسسات التي أُنشئت خلال فترة الوصاية، بالإضافة إلى الفكر الأصولي الإلغائي الذي يتغلغل في البنية الثقافية والتعليمية.

كلّ هذه العناصر تُشكّل مكونات المشهد السياسي اللبناني المعقّد، في ظل محاولات خليجية ودولية حثيثة للبحث عن مخرج. ومع ذلك، لا تزال المعالجات اللبنانية تدور في فلك المساومات التقليدية، إذ تُطرَح حلول تتعارض في جوهرها مع القوانين اللبنانية، وثيقة الوفاق الوطني، والقرارات الدولية ذات الصلة بالقضية اللبنانية.

تُهيمن على الساحة السياسية اللبنانية حالة من التنازع بين مناورات الميليشيات من جهة، وضعف المعالجات السياسية وهشاشتها من جهة أخرى. ويترافق هذا المشهد مع تحريض متزايد على النظام، واندفاع مطامح غير مشبعة لأطراف شاركت في حرب عبثية، وأصبحت مع مرور الزمن جزءاً لا يتجزأ من التركيبة السياسية. هذه الأطراف، التي اتّسمت خياراتها على الدوام باللاواقعية والغدر والعبث الفكري، لا تزال أسيرة “العقلية الميليشياوية الإلغائية الدموية”.

من المفارقات أن هذا النهج المتشنج لا يؤدي سوى إلى مزيد من الصدام بين قوى سياسية متباغضة وفاشلة، في ظل غياب أي أرضية للتفاهم أو حلول جذرية، ما يُنذر بتهديد مباشر لمسيرة العهد الحالي.

من المصائب المتكررة في النظام السياسي القائم، أنه كثيراً ما يعزف على وتر العناد والمناكفات والمعارضة السلبية، ساعياً لتأكيد حضوره الخجول في مفاصل القرار. ويُضاف إلى ذلك اعتماده مبدأ “الديمقراطية المُزيّفة”، التي باتت غطاءً لهرطقات سياسية يتقنها بعض رجالات السلطة ممن يوظفون مواقفهم في خدمة سلطة الأمر الواقع، ما إن تتقاطع مع مصالحهم الشخصية والحزبية. فهل يُعقل أن تُحكم البلاد بمكوّن سياسي لا يتجاوز تمثيله الواقعي 40%، ومع ذلك يُرسم على أساسه مستقبل الحياة السياسية؟

نحن في زمن الانحطاط السياسي، حيث من قدّموا أنفسهم كـ”مسؤولين روحيين وزمنيين” لا يتوانون عن ممارسة الإقطاعية السياسية بأقنعة ديمقراطية زائفة. أما النظام السياسي اللبناني، فبات في خطر داهم، نتيجة ممارسة سياسية رعناء، كيدية، ومتشظية، إذ تتعامل كل طائفة ومذهب وفئة مع الوطن على أنه حصة قابلة للتقاسم، ويتعامل بعض الزعماء مع الدولة كملكية خاصة، يتطاولون على القضاء، يصادرونه، ويوظفونه في فبركة الملفات للنيل من الخصوم.

في كتابه “بناء الوطن بعد الحرب، يشير الخوري طوني بو عسّاف، في مقدمة كتبها الوزير السابق زياد بارود، إلى أن هذه اللحظة المفصلية تتطلب “أفكاراً سلامية خلاصيّة استشرافية”، لأنّ بناء الوطن هو بمثابة ولادة جديدة، على غرار ما تدعو إليه المسيحية: الولادة المتجددة.

وعليه، فإن الواقع السياسي اللبناني اليوم يستدعي مقاربة جديدة، وتجربة سياسية بديلة شرط نجاحها الأساس: الوفاء للتاريخ وممارسة العدالة. أي أن يكون الشعب اللبناني شعباً واحدًا في وطن واحد، يقوم على قاعدة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

وفي هذا السياق، كتب الخوري طوني بو عسّاف: “إعادة بناء الوطن بعد الحرب ليست مجرد عملية فنية أو هندسية تتعلّق بإصلاح البنية التحتية، بل هي عملية شاملة ومعقّدة، تتضمّن معالجة كافة جوانب الحياة في المجتمع. إنها بداية مرحلة جديدة، تحتاج إلى وحدة وتكاتف من جميع فئات الشعب، إذ إنّ إعادة البناء لا تقتصر على ترميم ما تهدّم، بل تتعداه إلى وضع أسس متينة تكفل المستقبل.” (سلسلة غباليات، الجزء 13، 2025).

وبالعودة إلى الواقع، ومع تصاعد الأصوات الفكرية، ومع ما تطرحه مراكز الأبحاث، يمكن القول إن الأكثرية الصامتة في لبنان باتت بحاجة ماسة إلى رجالات دولة، علمانيين وروحيين، يتمتعون برؤية وطنية، لأن الأزمة تجاوزت منطق المحاصصة وانعدمت فيها الحلول الواقعية.

بات ضرورياً العمل على تشكيل “مجموعة فكرية وطنية” تتولى تنظيم الصفوف، وإيصال ممثليها إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية، لتبدأ عملية ترميم النظام السياسي وإنقاذ الدولة قبل انهيارها الكامل. علّها تكون بداية لذهاب الأمور نحو الخير.

 

https://hura7.com/?p=62446

 

الأكثر قراءة