الخميس, نوفمبر 6, 2025
23.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

الوضع السياسي في أرمينيا: بين الداخل والخارج

د. خالد العزّي

 

جريدة الحرة ـ بيروت

تشهد أرمينيا في السنوات الأخيرة وضعًا سياسيًا معقّدًا، تتداخل فيه عوامل داخلية وخارجية تؤثّر بشكل كبير في استقرار البلاد، لا سيّما بعد الحرب مع أذربيجان عام 2020 حول إقليم ناغورنو كاراباخ، والتي شكّلت نقطة تحوّل فارقة في المسار السياسي الأرمني. ولمقاربة هذا الواقع، يمكن تقسيمه إلى ثلاثة محاور رئيسية: الوضع الداخلي، والعلاقات الخارجية، والوضع الأمني.

أولًا: الوضع الداخلي – الحكومة والمعارضة

تعيش أرمينيا انقسامات داخلية حادّة بين الحكومة والمعارضة منذ تولّي رئيس الوزراء نيكول باشينيان السلطة في عام 2018، إثر “الثورة المخملية” التي أطاحت بالنظام السابق بدعوى محاربة الفساد. ورغم البداية المشرقة لحكم باشينيان وما رافقها من دعم شعبي واسع، إلّا أن الأداء الحكومي بعد الحرب مع أذربيجان، وخصوصًا توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي اعتبره كثيرون بمثابة “استسلام”، أدّى إلى تراجع كبير في شعبيته.

وقد تصاعدت الاحتجاجات المناهضة للحكومة، لا سيّما من قِبَل قوى المعارضة التي تتّهم السلطة بسوء إدارة الدولة والتقاعس في مواجهة التحدّيات المصيرية، مطالبةً باستقالة باشينيان. ومع ذلك، لم تؤدِ هذه الاحتجاجات إلى تغييرات جذرية حتى الآن، إذ واصلت الحكومة تنفيذ بعض الإصلاحات رغم الاتهامات المستمرّة بالفساد وبضعف الكفاءة الإدارية.

ثانيًا: اعتقالات الموالين لروسيا

في سياق التوتر المتزايد في العلاقات بين يريفان وموسكو، أقدمت السلطات الأرمنية على تنفيذ اعتقالات شملت عددًا من الشخصيات المحسوبة على روسيا، بتهمة محاولة زعزعة الاستقرار الداخلي من خلال دعم المصالح الروسية في البلاد. وقد أثارت هذه الخطوات جدلًا واسعًا داخل أرمينيا، حيث رأى فيها البعض انتهاكًا لمبادئ الديمقراطية ومحاولة لتعزيز سلطة باشينيان عبر ضرب الخصوم السياسيين، في حين اعتبرها آخرون إجراءات ضرورية لضبط الأمن الداخلي في ظل تحوّلات سياسية حساسة تمرّ بها البلاد.

ثالثًا: العلاقات الخارجية – بين أذربيجان وروسيا وتركيا

لا تزال أرمينيا تواجه تحدّيات خارجية جسيمة، في مقدّمها النزاع المزمن مع أذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ. وعلى الرغم من انسحاب القوات الأرمنية من معظم أراضي الإقليم بعد حرب 2020، فإن التوتر لم ينحسر، بل تصاعد مجددًا في نهاية عام 2023 بعد قيام أذربيجان بحلّ الحكومة المعلَنة في كاراباخ، ما أحدث صدمة داخلية عميقة في أرمينيا، وفاقم من تعقيد المشهد السياسي والأمني.

التوتر مع روسيا

لطالما اعتُبرت روسيا الحليف الاستراتيجي التقليدي لأرمينيا، غير أن السنوات الأخيرة شهدت فتورًا متزايدًا في العلاقة بين البلدين. فقد وجّهت يريفان انتقادات علنية إلى موسكو، تتّهمها بعدم الوفاء بالتزاماتها الأمنية، خصوصًا خلال المواجهات الأخيرة مع أذربيجان، ما دفع أرمينيا إلى إعادة النظر في تحالفاتها الإقليمية والدولية. هذا التبدّل في التوجّه الاستراتيجي يعكس تحوّلًا تدريجيًا في السياسة الخارجية الأرمنية، في محاولة للبحث عن بدائل تضمن حماية السيادة الوطنية وسط واقع إقليمي مضطرب.

التحوّل نحو الغرب

في خطوة غير مسبوقة، بدأت أرمينيا تتّجه تدريجيًا نحو الغرب خلال السنوات الأخيرة، ساعيةً إلى تعزيز علاقاتها مع كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقد أسهم هذا التوجّه في تصاعد التوتّر مع موسكو، التي لا تزال تعتبر أرمينيا جزءًا من دائرة نفوذها الاستراتيجية في منطقة القوقاز. ويعكس هذا التحوّل رغبة أرمينيا في تنويع تحالفاتها، وتخفيف اعتمادها التاريخي على روسيا، خاصة في ظل ما تعتبره تقصيرًا روسيًا في الوفاء بالتزامات الحماية والدعم خلال الأزمات الأخيرة.

الانفتاح على تركيا: زيارة تاريخية لباشينيان

في تحوّل سياسي لافت، تبنّى رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان سياسة انفتاح تجاه تركيا، بعد عقود من القطيعة والتوتر. ففي عام 2023، قام بزيارة رسمية إلى تركيا التقى خلالها بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطوة وُصفت بالتاريخية نظرًا إلى السياق العدائي الطويل بين البلدين. وقد هدفت هذه الزيارة إلى فتح آفاق جديدة للتعاون الثنائي، لا سيما في مجالات الاقتصاد والتجارة، رغم استمرار الخلافات العميقة حول قضايا تاريخية، أبرزها ملف الإبادة الأرمنية. وتمثل هذه المبادرة تغييرًا ملحوظًا في السياسة الخارجية الأرمينية، التي بدأت تسعى لتحسين علاقاتها مع الجيران، في موازاة إعادة تموضعها الإقليمي في ظل التراجع التدريجي لعلاقاتها مع روسيا.

الوضع الأمني: حدود غير مستقرة وجيش تحت الضغط

يبقى الأمن الداخلي والخارجي لأرمينيا تحديًا كبيرًا، في ظل عدم استقرار الحدود مع أذربيجان واستمرار المناوشات المتقطّعة بين الجيشين. ويُعاني الجيش الأرميني من ضعف نسبي مقارنة بالقوات الأذربيجانية المدعومة سياسيًا وعسكريًا من تركيا، ما يفرض على أرمينيا حالة تأهّب دائم، ويشكّل ضغطًا مستمرًا على بنيتها الدفاعية، في ظل هشاشة الضمانات الأمنية الدولية الفعلية.

ممر زنغزور: نقطة تحوّل استراتيجية في العلاقات الإقليمية والدولية

يُمثّل اللقاء الذي عُقد في 11 تموز/يوليو في أبوظبي بين الرئيس الأذري إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، خطوة مفصلية على صعيد العلاقات الإقليمية والدولية، خصوصًا في ما يتعلّق بمشروع فتح ممر “زنغزور” الاستراتيجي، الذي يصل أذربيجان بجمهورية نخجوان عبر الأراضي الأرمينية. هذا الممر لا يُعدّ مجرّد ممر جغرافي، بل يشكّل تحولًا نوعيًا في خرائط النفوذ والتواصل في المنطقة، لما ينطوي عليه من أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية عميقة.

التنافس الجيوسياسي: ممر زنغزور بوصفه عقدة إقليمية ودولية

يُعدّ موقف أرمينيا من مشروع ممر زنغزور بمثابة اختبار حقيقي لردود الفعل الإقليمية والدولية، لا سيما من جانب طهران وموسكو وبكين. إذ تحاول يريفان من خلال هذا الموقف استخدام ورقة الممر كورقة ضغط تفاوضية، تعكس استعدادها للتحرّك خارج الأطر التقليدية إذا توفّرت ضمانات أمنية واقتصادية كافية.

فممر زنغزور تحوّل من ممر عبور إلى عقدة جيوسياسية معقّدة، تتقاطع عندها مصالح كبرى، من مشروع “الحزام والطريق” الصيني، إلى الممرات الروسية والإيرانية، وصولًا إلى الأجندات الأميركية والتركية. كل هذه القوى ترى في هذا الممر ركيزة أساسية لإعادة تشكيل التوازنات في القوقاز وآسيا الوسطى.

ومن منظور التنافس الجيوسياسي، فإن أي تغيير في إدارة هذا الممر، أو في طبيعة السيطرة عليه، قد يُفضي إلى تصعيد التوتّر الإقليمي، وتعميق الانقسام بين المشاريع الدولية المتنافسة. وقد يصبح هذا الممر عاملًا حاسمًا في إعادة رسم موازين القوى في القوقاز، خصوصًا في ظل السعي المتسارع من قِبَل القوى الكبرى لترسيخ حضورها الاستراتيجي في هذه المنطقة الحيوية.

أرمينيا وأذربيجان: تغيّرات استراتيجية قد تعيد تشكيل موازين القوى في القوقاز وآسيا الوسطى

تمثّل التصريحات الأخيرة الصادرة عن يريفان رسالة سياسية قوية موجّهة إلى باكو، تدعو من خلالها إلى إحداث تحوّل استراتيجي في العلاقات الثنائية. إذ تسعى أرمينيا إلى الخروج من دائرة الاعتماد التقليدي على كلٍّ من روسيا وإيران، وتُعبّر بوضوح عن استعدادها للتحرّك في اتجاهات جديدة، شريطة تأمين ضمانات اقتصادية وأمنية كافية. يعكس هذا الموقف تحوّلًا لافتًا في السياسة الخارجية الأرمنية، قد يُفضي إلى إعادة تشكيل ملامح الصراع الإقليمي في منطقة القوقاز.

في المقابل، تُعدّ أي محاولة لتحجيم ممر “زنغزور” ضربة قاسية لإيران، التي تنظر إلى هذا الممر باعتباره شريانًا حيويًا يربط آسيا الوسطى بالعالم الخارجي. فأي تغيير في مسارات النقل والربط الإقليمي من شأنه أن يهدّد نفوذ طهران الاستراتيجي، ويقوّض قدرتها على الحفاظ على دورها كحلقة وصل جيوسياسية بين الشرق والغرب.

من جهة أخرى، يُمثّل ممر زنغزور نقطة ارتكاز حاسمة في تحديد التوازن الجيوسياسي بين مشاريع القوى الكبرى، وفي مقدّمتها الصين وروسيا والولايات المتحدة. إذ يسعى كل طرف إلى تعزيز حضوره ونفوذه في هذه النقطة الحيوية، ما يجعل من إدارة هذا الممر عاملًا مفصليًا في رسم معالم العلاقات الدولية المستقبلية، وتحديد ما إذا كانت المنطقة مقبلة على تحوّل جذري في موازين القوى بين الشرق والغرب.

وعليه، يبدو أن المرحلة المقبلة ستكون مليئة بالتحدّيات والتحوّلات الاستراتيجية، التي قد تعيد صياغة الخرائط الجيوسياسية لمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى. وسيلعب ممر زنغزور دورًا محوريًا في هذه المعادلة، بوصفه عنصرًا حاسمًا في تحديد طبيعة العلاقات بين القوى الكبرى في الإقليم.

يمكن القول إن أرمينيا تمرّ اليوم بمرحلة سياسية حرجة، تتّسم بتوتّرات داخلية متصاعدة بين الحكومة والمعارضة، وأوضاع أمنية متقلّبة على حدودها مع أذربيجان، فضلًا عن تحوّل استراتيجي في سياستها الخارجية بين المعسكرَين الروسي والغربي. ويبدو أن الطريق أمام يريفان يتطلّب توازنًا دقيقًا بين الحفاظ على الاستقرار الداخلي، ومواجهة التحدّيات الأمنية الإقليمية، في ظل عالم متعدد الأقطاب وتراجع ثبات التحالفات التقليدية.

https://hura7.com/?p=62618

 

 

الأكثر قراءة