الخميس, نوفمبر 6, 2025
23.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

اليسار اللبناني: بين أسر التاريخ ورهان المستقبل

من لا يملك شجاعة الحاضر، يظل أسيراً لظلال الماضي

د. بشير عصمت

 

جريدة الحرة ـ بيروت

  • “التاريخ ليس سجناً، بل جسرٌ نحو المستقبل” – أرنولد توينبي.
  • “من لا يتعلّم من الماضي، يُعاقَب بتكراره” – جورج سانتايانا.

ليس في نيتي السجال ولا في رغبتي الدخول في حوار شخصي مع أي رأي، لكن مع الإفراج عن المناضل جورج إبراهيم عبد الله وعودته إلى لبنان، تصاعد الكلام بين من حمل الحنين إلى ذاكرة الأمس وبين من اكتوى بنار تجربة أربعين عاماً. أما أنا، فأرى أن حقوق الناس لا تُمنح من رأفة الفاجرين ولا من عطايا الأقوياء، بل تُنتزع من نضال المتضررين، ولبنان خير نموذج لهؤلاء الذين دفعوا أثمان الفساد والاستبداد والطائفية.

من هنا، أصررت على أن أكتب، لا دفاعاً عن وهمٍ ماضوي ولا استسلاماً للخيبة، بل إيماناً بأن التغيير – مهما تلونت أشكاله – يبقى في جوهره تحركاً نحو اليسار، نحو العدالة والكرامة، ونحو إعادة التفكير في أي يسار نريد ولأي لبنان نصبو. قد لا يكون اليسار اليوم في أبهى صوره، لكنه ما زال ممكناً إن استعاد عضويته الغرامشية، وتعلّم من أخطائه، وانفتح على واقع جديد يتطلب شجاعة نقدية وتنظيمية وفكرية.

هناك من يصرّ على أن اليسار في لبنان لم يعد سوى كومة من الذكريات، يعيش على فتات الماضي، ويستيقظ فقط حين يعود رمزٌ من الأسر أو حين تهبّ نسمة عابرة من التاريخ. هذا الخطاب الذي يدّعي الواقعية لا ينطوي في جوهره إلا على استسلام ناعم، يلبس ثوب النقد فيما يروّج عملياً لدفن أي أفق للمستقبل. إن تحويل ذاكرة اليسار إلى عبء أو لعنة، بدل أن تكون معمل الدروس ومخزون التجربة، يعني التخلي عن كل معنى لمفهوم التغيير. التاريخ ليس جثة نجرّها، بل هو نهر تتدفّق مياهه في الحاضر لتصنع مسار الغد، وكل محاولة لتصويره كحِملٍ ميّت ليست سوى ذريعة للانخراط في الأمر الواقع.

اليسار الذي يفشل في تجديد أدواته لا يُبعث من الرموز وحدها، لكن إنكار قيمة هذه الرموز ليس سوى خيانة للمعنى الذي وُلدت منه. جورج إبراهيم عبد الله ليس حلماً رومانسياً عتيقاً ولا مجرد صفحة من الماضي، بل هو تذكير بأن الصراع لا يزال قائماً، وأن هناك معايير أخلاقية وسياسية يمكن أن تكون حجر أساس لمشروع تحرري جديد. المشكلة ليست في أن اليسار يكرّر شعاراته، بل في أن البعض يريد من هذا اليسار أن يتخلى عن جذوره ليلتحق بركب الليبرالية المتوحشة التي تغلّف نفسها بخطاب «حداثي» فيما تحمي مصالح السوق والطوائف.

الأخطر أن هذا الخطاب السلبي يفتح الباب أمام تمدّد القبول بالأمر الواقع، وكأن لا جدوى من مقاومة الاستبداد أو الاحتلال أو النهب المنظّم. منطق «لا أمل» هو المنطق ذاته الذي استخدمته القوى الطائفية لتبرير هيمنتها منذ عقود، وهو المنطق نفسه الذي يدفعك إمّا إلى الارتماء في أحضان سلطة طائفية جديدة أو إلى ترديد أغانٍ قديمة بلا فعل. هنا تكمن المفارقة: يتم الهجوم على اليسار بدعوى أنه يعيش في الماضي، بينما يُدعى في الوقت نفسه إلى الاندماج في منظومات أشدّ عطباً، لا جامع بينها سوى الخصومة الفارغة مع طائفية صارت مرجعاً وحيداً لتقاسم السلطة والنهب.

اليسار الحقيقي ليس ألواناً على لافتة ولا شعارات متعبة، بل رؤية سياسية متجدّدة تنطلق من صلابة الموقف الأخلاقي: مقاومة الاحتلال كشرطٍ للكرامة الوطنية، مقاومة الفساد والاستبداد كشرطٍ للعدالة الاجتماعية، وبناء مواطنة متساوية كشرطٍ للديمقراطية. أي محاولة لفصل هذه الأبعاد هي انتحار سياسي. أما الليبرالية التي تُسوَّق كبديل «واقعي»، فهي في جوهرها تواطؤ مع قوى السوق والطوائف، لأنها تعزل الحرية الفردية عن أي مضمون اقتصادي واجتماعي، وتحوّل السياسة إلى إدارة للأزمات بدل تفكيك أسبابها.

لا قيمة لليسار إن لم يقطع جذرياً مع الجمود الأيقوني من جهة، ومع الليبرالية التجميلية من جهة أخرى. هذا يعني بناء يسار نقدي قادر على التعلم من التجارب السابقة دون أن يغرق في نوستالجيا عمياء، يسار ينزل إلى الشارع والجامعة والنقابة، يشتبك مع القضايا اليومية للناس بذكاء تنظيمي، ويتجاوز ثنائية «محور» و«تطبيع» ليركز على المجتمع باعتباره مركز السياسة ومحرّكها. المطلوب يسار يعيد وصل التحرّر الوطني بالعدالة الاجتماعية، ويمزج بين المعركة على الخبز والمعركة على الكرامة، بين فلسطين كقضية أخلاقية مركزية وبين رفض استخدام فلسطين كذريعة للاستبداد الداخلي.

إن أخطر ما قد يحدث اليوم هو الانجرار إلى قناعة أن «اللعبة انتهت» وأن كل ما بقي هو اختيار أقل الطوائف سوءاً أو أقل الليبراليات قسوة. هذا التفكير لا يولّد يساراً جديداً، بل يساراً مشوّهاً منزوع الروح، يساراً «وظيفياً» يخدم لعبة الآخرين. ما نحتاجه ليس يساراً يعتذر عن مقاومة الاحتلال، ولا يساراً يساوم على خبز الفقراء، بل يساراً يستعيد معناه كضمير جماعي يربط بين الكرامة والمساواة والتحرّر، ويعرف أن معركة المفاهيم واللغة هي جزء من معركة التحرّر نفسها.

في النهاية، النقاش ليس حول ماضٍ جميل أو حول رمزٍ يُستعاد بين حين وآخر، بل حول سؤال المستقبل: هل نقبل بأن يبتلعنا خطاب الاستسلام المتقن، أم نمتلك الشجاعة لبناء يسار نقدي، واقعي وحرّ، يتجاوز العطب ويعيد للسياسة معناها الأصيل؟ الجواب سيحدّد ما إذا كانت عودة جورج إبراهيم عبد الله شرارة لبداية جديدة، أم مجرد صورة أخرى تضاف إلى ألبوم الماضي.

ليس هناك واقعٌ أقسى من الاستسلام، ولا أملٌ أصدق من السعي للتغيير…

https://hura7.com/?p=62640

الأكثر قراءة