
جريدة الحرة ـ بيروت
في ركن بعيد من العمر، حيث تتكدّس الخيبات بجوار أكواب الشاي المنسية، تنهض امرأة ستينية من سباتها العاطفي. تمشط شعرها ببطء، وتضع قليلًا من أحمر الشفاه كما لو أنها تعيد الحياة لجدار قديم تصدّع من صمت السنين. لا تضعه لتغري مرآة باردة، بل لتستدعي طيفًا تائهًا لشيء اسمه “الأنوثة”… ذلك الشعور الذي دفنته تحت عباءة الزوجة الصالحة، والأم المضحية، وسيدة المنزل التي تنتظر رجلًا لا يعود.
مرت السنوات، وقرعت أجراس التقاعد، وتفرّق الأبناء كالعصافير. وجدت نفسها وحيدة، لكنها لم تستسلم. قررت أن تبحث عن ذاتها الضائعة، أن تُمسك أطراف حلم قديم، تتجمّل بالكلمات، وتغازل الحروف، وتظن أن الرجال ما زالوا هناك، ينتظرون كلمةً منها أو نظرة.
دخلت عوالم التواصل الاجتماعي، وفتحت أبوابًا كانت مغلقة خلف صمت طويل. صنعت لنفسها صورةً مثالية: سيدة ناضجة، مثقفة، تعرف الشعر والرواية، وتحفظ أبيات درويش ونزار عن ظهر قلب. أطلقت العنان لأحاديث مسائية افتراضية، وأوهام رومانسية في غرف الدردشة، وأوهام أعادت إليها مؤقتًا دفء شباب لم يعد يسكن الجسد.
لكن الحقيقة كانت مؤلمة.
الرجال الذين اقتربوا سرعان ما هربوا، كمن يكتشف أن الهيكل العظمي الذي رآه من بعيد كتمثال أنيق، ما هو إلا سراب لأنثى كانت، ولم تعد.
كل من اقترب وجد الفجوة بين الكلمات والمشاعر، بين ما تتمنى أن تكونه، وما فعليًا تبقّى منها.
حاولت استدراك الموقف، أن تمسح الصدأ من المفتاح القديم الذي يفتح أبواب الحب، لكن الباب ظلّ يئنّ، والمفتاح تأكله الرطوبة مهما لمّعته بذكاء اصطناعي أو فلسفة نضج متأخر.
العمر ــ ويا للأسى ــ مضى.
وما تبقّى ليس إلا بقايا محاولات فاشلة لتزيين الأطلال.
ومع كل “تفاعُل” جديد، مع كل قلب افتراضي تتلقّاه، تعود بخيبة أكبر. تكتشف أن المشكلة ليست في الرجال، بل في محاولتها إعادة تشغيل شريط انتهى، وكأنها تظن أن مشهد النهاية يمكن تغييره بفلتر أو صورة جديدة.
لكن، رغم كل شيء، تبقى الحقيقة الأكثر إشراقًا هي أن الأنوثة ليست في مديح عابر، ولا في وعد رجل بلقاء مؤجل، بل في تلك النار الصغيرة التي تشتعل داخلك، حين تُقرّرين أن تحبي نفسك، وتكتبي مرثيتك بصدق، ولو متأخرة.
أيتها العجوز الحلوة،
لم تعودي وردة،
لكنك ظلّها العالق في الذاكرة.
لا أحد يشمّك،
لكنّك لا تذبلي…!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
وكاتب يعرف كيف يكتب عن النساء حين لا يعرفن ماذا يقلن…!!