الحرة بيروت – بقلم ايهاب عنان، كاتب وباحث
في جنوب لبنان، الذي طالما كان مسرحاً للتوترات والنزاعات، جاءت الحرب الأخيرة لتضيف جرحاً عميقاً إلى سجلّ المعاناة الطويل. هذه الحرب التي استهدفت مناطق واسعة من الجنوب خلّفت دماراً هائلاً في البنى التحتية، ووضعت السكان في مواجهة واقع قاسٍ من التشريد والمعاناة الإنسانية. ومع إعلان وقف إطلاق النار، بات السؤال الأهم يدور حول كيفية مواجهة التحديات الناجمة عن هذا الدمار، والدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمات الدولية في إعادة الإعمار، وسط تعقيدات سياسية واقتصادية محلية وإقليمية.
لم تكن الحرب الأخيرة على جنوب لبنان مجرّد مواجهة عسكرية، بل كانت جزءاً من استراتيجية أوسع لإضعاف استقرار المنطقة وإثقال كاهل سكانها بالمعاناة. البنى التحتية كانت الهدف الأكبر، حيث دُمّرت الطرق والجسور التي تربط القرى بالمدن، وشُلّت شبكات الكهرباء والمياه، وأصبحت المدارس والمستشفيات غير قابلة للاستخدام. هذا الدمار لم يكن مجرّد تأثير جانبي للعمليات العسكرية، بل بدا وكأنه جزء من خطة ممنهجة لشلّ الحياة اليومية في الجنوب وإضعاف قدرته على الصمود.
السكان المدنيون كانوا الضحية الأكبر لهذه الحرب. فقد وجد الآلاف أنفسهم بلا مأوى، يواجهون نقصاً حاداً في الغذاء والمياه والرعاية الطبية. المدن والقرى التي كانت نابضة بالحياة تحولت إلى أطلال، مما جعل الحاجة إلى إعادة الإعمار أمراً ملحاً، ليس فقط لإعادة الحياة إلى طبيعتها، بل أيضاً لتخفيف المعاناة الإنسانية التي خلفتها الحرب.
مع انتهاء الحرب، ستسارع المنظمات الدولية إلى تقديم المساعدات الطارئة، مثل توفير الغذاء والمأوى والرعاية الصحية للمتضررين. ومع ذلك، فإن إعادة الإعمار تتطلب أكثر من مجرد استجابة إنسانية عاجلة؛ فهي تحتاج إلى استثمارات طويلة الأمد وخطط شاملة لإعادة بناء البنى التحتية المدمرة وإحياء الاقتصاد المحلي.
لكن الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية لا يخلو من التعقيدات. فالمساعدات التي تقدمها غالباً ما تكون مشروطة بإصلاحات سياسية أو اقتصادية، مما يجعلها أداة ضغط على الحكومة اللبنانية لتنفيذ أجندات معينة. في بعض الأحيان، يمكن أن تتحول هذه المساعدات إلى وسيلة للتأثير على توازن القوى في البلد، مما يثير مخاوف من أن تصبح عملية إعادة الإعمار ساحة جديدة للصراع السياسي، بدلاً من أن تكون فرصة لتعزيز الاستقرار.
إعادة إعمار جنوب لبنان ليست مجرد مسألة تقنية، بل هي تحدٍ سياسي واقتصادي واجتماعي. الحكومة اللبنانية، التي تعاني أصلاً من أزمات مالية واقتصادية حادة، تجد نفسها أمام مهمة شبه مستحيلة لتوفير التمويل اللازم لإعادة الإعمار. كما أن الانقسامات السياسية الداخلية تزيد من تعقيد المشهد، حيث تتباين وجهات النظر حول أولويات إعادة الإعمار وكيفية تنفيذها.
التنسيق مع المنظمات الدولية يمثل تحدياً آخر. فبينما تحتاج الحكومة اللبنانية إلى دعم هذه المنظمات، فإنها تواجه في الوقت نفسه ضغوطاً للتأكد من أن المساعدات تصل إلى مستحقيها دون أن تكون أداة لتحقيق أجندات خارجية. الشفافية والمساءلة ستكونان عاملين حاسمين لنجاح جهود إعادة الإعمار، خاصة في ظل التجارب السابقة التي أظهرت أن الفساد وسوء الإدارة يمكن أن يعرقلا أي تقدم.
إعادة إعمار جنوب لبنان تتطلب نهجاً شاملاً يعتمد على التعاون بين الحكومة اللبنانية والمجتمع الدولي والمجتمع المدني المحلي. على المستوى المحلي، يجب أن تكون هناك خطط واضحة لإعادة بناء البنى التحتية، مع التركيز على تحسين نوعية الحياة للسكان المتضررين. إشراك المجتمع المحلي في هذه الجهود يمكن أن يضمن أن تكون عملية إعادة الإعمار هذه شاملة وعادلة.
على المستوى الدولي، يجب أن تكون المساعدات موجهة نحو تحقيق الاستقرار والتنمية، بعيداً عن أي ضغوط سياسية. فالدول المانحة والمنظمات الدولية بحاجة إلى تبني نهج يركز على الإنسان أولاً، مع ضمان الشفافية في توزيع المساعدات واستخدامها. كما أن تعزيز التعاون الإقليمي يمكن أن يساعد في توفير الموارد اللازمة لإعادة الإعمار، ويخلق فرصاً للتكامل الاقتصادي بين لبنان وجيرانه.
الحرب على جنوب لبنان ليست مجرد مأساة إنسانية، بل هي درس مهم حول أهمية الاستثمار في السلام والاستقرار. البنى التحتية ليست مجرد منشآت مادية، بل هي الركيزة الأساسية لحياة الناس وكرامتهم. تدميرها يعني تدمير الأمل، وإعادة بنائها يجب أن تكون فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
في هذا السياق، يمكن للبنان أن يستفيد من خبرات دول أخرى مرّت بتجارب مشابهة، حيث يمكن لمشاريع إعادة الإعمار أن تكون فرصة لتعزيز التنمية المستدامة، بدلاً من أن تكون مجرد استجابة طارئة للأزمات. التكنولوجيا الحديثة، مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية الذكية، يمكن أن تكون جزءاً من الحلول التي تجعل الجنوب نموذجاً يحتذى به في إعادة الإعمار.
رغم أن إيقاف الحرب على جنوب لبنان يعتبر خطوة أولى نحو التخفيف من معاناة السكان، غير أن التحدي الأكبر يبقى في إعادة الإعمار وبناء المستقبل. الدمار الذي لحق بالبنى التحتية يمكن أن يكون فرصة لإعادة التفكير في كيفية بناء بلد أكثر قوة واستدامة. المنظمات الدولية، إذا ما أدت دورها بحيادية وشفافية، يمكن أن تكون شريكاً حقيقياً في هذا الجهد. في النهاية، يبقى الأمل معقوداً على قدرة لبنان، حكومة وشعباً، على تحويل الألم إلى فرصة، والمعاناة إلى حافز للنهضة والاستقرار، وهو قادر على ذلك والتاريخ يشهد له .