حنا صالح
جريدة الحرة ـ بيروت
منذ أكثر من خمسين سنة التقيت زياد، عشية الحرب الأهلية، في زمن “عروس البحر”، وبعد مرور خمسين سنة على تأسيس الحزب الشيوعي.
في حرب السنتين، توطدت العلاقة. كان زياد يقدّم من الإذاعة اللبنانية البرنامج الذائع الصيت: “بعدنا طيبين قولوا الله”، وكنتُ مكلّفًا، مع جهاد الزين وجوزيف سماحة، بالمساهمة في الأخبار والتعليقات للإذاعة والتلفزيون. أذكر توتّرك وقلقك، والأخبار ترد عن مقاومة حفنة من الرفاق الأبطال، وهم يصدّون تقدّم جيش النظام السوري من ضهر البيدر نزولًا إلى الجبل، يومها توجّهتَ إلى ضابط قوة الغزو قائلاً: “ولاه، ما شفت الاسم؟ هيدي بوارج مش الجولان!”
أذكر انكساراتك حين كنتَ تذكر ليال، أو عند رحيل جوزيف صقر، وتلك العبارة: “مات وعطاني عمره، شو بدي فيه؟ أنا عمري مش عارف كيف كفّي فيه…”
وأذكر ما عشتهُ وعشناه يوم اغتيال مهدي عامل. في الرابعة فجرًا خابرتني، وذهبت خلال دقائق من الوُتَرات إلى الحمرا. طلبتَ أن أستمع إلى حلقة “العقل زينة”، وسألتني، كعادتك، لتمتحنني: “شو؟” تمسّكت بالشريط وأجبت: “ع الوقت، تمانة وربع”.
قلتَ لي بحزم: “إياك والخطأ. ستُذاع الحلقة كما هي”. وأخذتَ الكاسيت إلى اجتماع طارئ للمكتب السياسي عند السابعة والنصف صباحًا، وقلت فورًا: “يجب أن تستمعوا إلى ما ستقوله صوت الشعب بعد قليل: قتلوه لأنه شيوعي… شي مرة خلونا نمشي من بيت القتيل ع بيت القاتل”.
همهمَ الرفاق، وحسم جورج الأمر: “صوت الشعب تقوم بدورها”.
عن ماذا أتحدث، أيها الشريك في عمل يومي مضنٍ كنّا نسابق فيه الزمن لبناء “صوت الشعب”؟ عن ناس الإذاعة؟ عن برامجها؟ عن الدعاية المتلفزة للانطلاقة، أنت وكارمن؟ أم عن ذاك الاتصال تحت أزيز الرصاص لتقول لي: “العقل زينة”؟
أكثر من ربع قرن بعدها افترقنا في السياسة، بعد نقاشات وجدال وغضب.
جايي مع الشعب المسكين… الجوع كافر، يا أبو الزلف… يا رشيد… أيها الاستثنائي الذي كسرتَ المسكوت عنه،
عندما بلورتَ على طريقتك في الإبداع، أيها الرؤيوي، ما طرحه قبلك يعقوب في “بلا لعاب يا ولاد”، فكانت: “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”.
الانكسار كبير، يا زياد. ترحل أنت، مَن حوّل الموسيقى والأغنية والمسرح إلى أدوات مقاومة، ويبقى اللصوص الذين نهبوا البلد وجني الأعمار.
ذهب زياد، لأن ما كان معه لا يكفي كلفة عملية زرع كبد. وما بدّه حدا يدفع عنه.
أوف… هالبلد اللي عشقناه ونعشقه صار مقبرة للطيبين والمبدعين.
أوف، يا فيروز، التي تعيش التجربة المرّة، مرةً ثانية… وقت يفلّ الابن قبل أهله!
زياد، عندي كتير، بس سيبقى عودك رنان… ملا إنت!


