د. خالد العزّي
جريدة الحرة ـ بيروت
تُعَدّ بولندا من الدول المحورية في أوروبا الشرقية، إذ تقع في نقطة استراتيجية حساسة تربط بين أوروبا الغربية وروسيا. وقد تميزت بتاريخ طويل من الصراعات والتحوّلات السياسية. وبعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أصبحت بولندا قوة إقليمية بارزة ذات طموحات سياسية واضحة، تسعى إلى تحقيق توازن جديد في شرق أوروبا، لا سيما في مواجهة التهديدات الروسية والأزمات الجيوسياسية المتصاعدة في المنطقة.
الموقع الجغرافي والتاريخ السياسي
تقع بولندا بين أوروبا الغربية وروسيا، ما جعلها عبر العصور ساحةً لصراعات الإمبراطوريات الكبرى، ومسرحًا لحربين عالميتين داميتين.
وفي أعقاب سقوط الشيوعية عام 1989، تبنّت بولندا توجهًا غربيًا واضحًا؛ فانضمت إلى حلف الناتو في عام 1999، ثم إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004.
وقد ساهمت هذه الخطوات في تعزيز مكانتها كدولة “جسر” بين أوروبا الغربية والشرقية، مما أتاح لها مشاركة فاعلة في الشؤون الأوروبية، لا سيما في مجالات الأمن والطاقة والهجرة.
السياسة الخارجية والدور الإقليمي: عداء حذر تجاه روسيا
منذ ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، والغزو الروسي لأوكرانيا في 2022، تنظر بولندا إلى موسكو بوصفها تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا.
وقد أسهم هذا الإدراك في تحوّل بولندا إلى أحد أبرز داعمي أوكرانيا، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي. كما استضافت مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين، وأصبحت نقطة لوجستية حيوية لإمدادات القوات الأوكرانية، ما يعكس التزامها العميق بأمن المنطقة واستقرارها.
بولندا ودورها في الرباعية الأوروبية
تُعَدّ بولندا من أبرز القوى الأوروبية الداعمة لأوكرانيا في مواجهة العدوان الروسي، ولا سيما في إطار الرباعية الأوروبية التي تضم ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة، وبولندا نفسها.
منذ بداية الغزو، لعبت وارسو دورًا رياديًا في هذا التحالف الرباعي، مقدّمةً مساعدات سياسية وإنسانية وعسكرية واسعة لكييف، بما في ذلك أسلحة ثقيلة وطائرات ودروع. كما أبدت اهتمامًا خاصًا بتوفير ملاذ آمن للاجئين الأوكرانيين، في خطوةٍ تعكس التزامها الواضح بسيادة أوكرانيا واستقلالها.
هذا الدور الحيوي يعزّز مكانة بولندا بوصفها قوة محورية في أوروبا الشرقية، ولاعبًا رئيسيًا في جهود الاتحاد الأوروبي لحشد الدعم في مواجهة موسكو.
العلاقة مع الاتحاد الأوروبي: توافق وتوتر
رغم عضويتها في الاتحاد الأوروبي، تمرّ علاقة بولندا ببروكسل بمحطات من التوتر، خصوصًا على خلفية اتهامات بانتهاك سيادة القانون واستقلال القضاء. ومع ذلك، تبقى وارسو لاعبًا لا غنى عنه داخل الاتحاد، خصوصًا في ملفات الطاقة والأمن والهجرة. ويمنحها هذا الموقع نفوذًا ملموسًا في رسم السياسات الأوروبية، وخصوصًا في مرحلة ما بعد الحرب في أوكرانيا.
التحالفات الإقليمية
تلعب بولندا دورًا قياديًا في عدد من المبادرات الإقليمية التي تهدف إلى تعزيز التعاون السياسي والعسكري في أوروبا الشرقية.
فهي تقود على سبيل المثال مبادرة “مثلث لوبلين” بالتعاون مع أوكرانيا وليتوانيا، والرامية إلى تعزيز التعاون بين هذه الدول في مجالات السياسة والأمن.
كما تشارك في “المبادرة الشرقية” ضمن حلف الناتو، والتي تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية في مواجهة التهديدات الروسية.
إضافة إلى ذلك، تساهم بولندا في مشروع “مبادرة البحار الثلاثة”، الذي يسعى إلى تحسين البنية التحتية وشبكات النقل والطاقة بين 12 دولة في وسط وشرق أوروبا، مما يعكس طموحها لتعزيز التكامل الإقليمي والموقع الاستراتيجي.
القوة العسكرية والأمنية
استثمرت بولندا بشكل كبير في تحديث جيشها، وهي من بين الدول القليلة في حلف الناتو التي تجاوزت عتبة الإنفاق الدفاعي الموصى بها، والمقدَّرة بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي عام 2023، أعلنت وارسو عن خطط لبناء أحد أقوى الجيوش البرية في أوروبا، مستفيدةً من صفقات ضخمة مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، في خطوةٍ تعبّر عن رغبتها في تعزيز قدراتها العسكرية وجاهزيتها لمواجهة التهديدات المستقبلية.
الداخل السياسي وأثره في السياسة الخارجية
في انتخابات عام 2025، انتُخب رافاو تشاسكوسكي، رئيس بلدية وارسو، رئيسًا لبولندا. وينتمي تشاسكوسكي إلى حزب المنصة المدنية الليبرالي، ويُعرف بتوجهاته المؤيدة للديمقراطية وحقوق الإنسان.
أما دونالد توسك، رئيس الوزراء الحالي، فهو من الحزب ذاته، لكنّه يتبنى توجّهًا أكثر براغماتية في مجالات الحكم والإدارة.
ورغم الانتماء الحزبي المشترك بين الرئيس ورئيس الوزراء، قد تنشأ تحديات في إدارة السياسات الداخلية والخارجية نتيجة تباين الأولويات: فبينما يركّز تشاسكوسكي على تعزيز الحقوق الفردية والديمقراطية، يُعطي توسك أولوية للاستقرار السياسي وإدارة العلاقات الاقتصادية والدولية في مرحلة دقيقة.
موقع بولندا في مشهد أوروبا المتحوّل
تلعب بولندا اليوم دورًا متقدمًا في أوروبا الشرقية، سواء كحليف أساسي لحلف الناتو في مواجهة روسيا، أو كقوة إقليمية تسعى إلى بلورة رؤية استراتيجية خاصة بها. ومع استمرار الحرب في أوكرانيا وتغير موازين القوى في أوروبا، من المتوقّع أن يتعاظم دور بولندا في رسم مستقبل المنطقة.
وهكذا، تبقى بولندا لاعبًا أساسيًا لا يمكن تجاهله في أي معادلة أمنية أو سياسية تخص شرق أوروبا، وشريكًا فاعلًا في إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للقارة.


