الأحد, يونيو 22, 2025
24.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

بين الفساد الرقمي والتقاعس التشريعي: العملات المشفّرة في لبنان تحت المجهر

 

د. جاد طعمه

 

جريدة الحرة ـ بيروت

تقف العملات الرقمية في قلب الجدل بين الحوكمة والانفلات، بين التمكين الفردي والانهيار الجماعي، في عالم يزداد ترابطاً عبر التكنولوجيا المالية. هذه التحولات لم تبقَ حكراً على الاقتصادات المتقدمة بل وصلت إلى لبنان ودول أخرى تعيش انهياراً اقتصادياً شاملاً. وبينما تتصارع القوى العالمية على ضبط هذه الظاهرة أو توظيفها يعيش اللبنانيون في واقع مالي منهار دفع كثيرين منهم إلى أحضان العملات المشفرة التي ليس لها إطار قانوني ضابط أو حماية مؤسسية لتجنّب مخاطرها.

التمييز بين العملات الرقمية والمشفّرة

من المهم بدايةً، التمييز بين نوعين من هذه العملات. هناك العملات الرقمية الصادرة عن جهات مركزية كالبنوك المركزية أو شركات مثل  PayPal وهي تسعى إلى تحسين الكفاءة المالية وزيادة الشمول المالي مع الإبقاء على رقابة الدولة. من أبرز الأمثلة على ذلك، اليوان الرقمي الصيني. أما النوع الثاني وهو الأكثر إثارة للجدل فهو العملات المشفّرة (Cryptocurrencies) التي تقوم على مبدأ اللامركزية وتُدار عبر تقنية البلوك تشين. البيتكوين تعدّ من أشهر هذه العملات لأنها ترمز لما جرى التعارف على تسميته “الذهب الرقمي” وهي أداة للاستثمار أكثر منها عملة للاستخدام اليومي.

السياسات الدولية: من التنظيم إلى الحظر

في الساحة الدولية اختلفت سياسات الدول بشكل حاد. الاتحاد الأوروبي مثلاً أقر في العام 2023 قانون “MiCA” لتنظيم سوق العملات المشفرة فارضاً متطلبات صارمة على الشفافية ومنع الإعلانات المضلّلة لكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام الابتكار. في المقابل اتخذت الصين مساراً حازماً فحظرت التعدين والتداول لما له من آثار بيئية ومخاطر على حركة رأس المال لكنها لم تتخلَّ عن التكنولوجيا بل تبنّتها في إطار اليوان الرقمي لتعزيز هيمنتها النقدية. أما في الولايات المتحدة فقد أصبح التعامل بهذه العملات خاضعاً لقوانين الضرائب ورقابة هيئة الأوراق المالية وشهدت البلاد معارك قانونية بارزة مثل ملاحقة منصة Binance بتهم تتعلق بغسيل الأموال.

الواقع اللبناني: تداول بلا تشريع

في لبنان يختلف المشهد تماماً إذ لا يوجد قانون يُنظّم التعامل بالعملات المشفّرة بينما تمنع تعاميم صادرة عن المصرف المركزي المصارف التجارية من الانخراط في هذا المجال. رغم ذلك ينشط السوق خارج أي إطار قانوني حيث يتم التداول عبر منصات أجنبية أو وسطاء محليين خاصة لدى بعض مكاتب الصيرفة، وهؤلاء يعملون بمعزل عن أي رقابة. ويُقدّر أن بعضهم يتقاضون عمولات تصل إلى 30% لقاء تحويلات رقمية بسيطة ما يفتح الباب أمام استغلال المستخدمين.

من انهيار المصارف إلى صعود العملات المشفّرة

فوضى العملات الرقمية في لبنان ليست طفرة طارئة بل هي نتيجة انهيار ممنهج للثقة في القطاع المصرفي. منذ الأزمة المالية في 2019 خسر اللبنانيون قدرتهم على الوصول إلى أموالهم وجنى أعمارهم، فتحوّل كثير منهم إلى العملات المشفّرة كأداة لتلقّي تحويلات المغتربين أو لحماية مدخراتهم من التضخم. فقد فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها مما جعل العملات الرقمية ملاذاً رقمياً – وإن غير مضمون – لمواجهة الانهيار الاقتصادي من جهة وفقدان الثقة الائتمانية في القطاعات التي يفترض بأنها تخضع للقوانين والأنظمة وفي مقدمتها المصارف التجارية، من جهة أخرى. وما زاد التراخي القضائي في التصدي لقضية المودعين المواطنين إلا جنوحاً نحو هذا السوق المنفلت والذي رغم المخاطر فيه يمكنه أن يأتي بالأرباح السريعة.

مخاطر حقيقية في بيئة هشّة

هذا الواقع دفع بعض الشباب اللبناني إلى دخول سوق العملات المشفّرة بحماسة لكن دون معرفة كافية مما عرّضهم إلى مخاطر جمّة. فعلى سبيل المثال انهارت عملة Terra Luna في 2022 بشكل مفاجئ ما أدّى إلى خسائر عالمية تجاوزت 40 مليار دولار وكان للبنانيين نصيب منها. كذلك وقع البعض ضحية لمشاريع احتيالية مثل  Squid Game Token التي اختفت من السوق بعد جمع ملايين الدولارات دون أثر.

لا يقتصر الخطر على الخسائر المالية فحسب بل يمتد إلى التنمّر الرقمي والقرصنة الإلكترونية. المحافظ الرقمية ليست مؤمّنة كما يظن البعض ويمكن اختراقها بسهولة عبر حملات تعتمد على الأفخاخ الإلكترونية أو البرامج الخبيثة. ومع غياب أي هيئة لبنانية تحمي حقوق المودعين والمستثمرين يجد الضحايا أنفسهم بلا ملاذ قانوني.

فراغ تشريعي وتساؤلات قانونية

من الزاوية القانونية يثير هذا الواقع أسئلة جدية. ماذا لو استُخدمت العملات المشفّرة لتبييض الأموال؟ وهل يمكن تجريم تحويلات رقمية في بلد لا يملك تشريعاً واضحاً؟ الجواب المعقّد يكمن في غياب النصوص ما يُضعف أي قدرة على فرض رقابة أو محاسبة إلّا استناداً إلى القواعد القانونية العامة. طبعاً إن غياب التشريع لا يعني غياب الجريمة بل يفتح المجال أمام تفسيرات متضاربة ومزاجية في الملاحقة القضائية خاصة مع انعدام الرغبة غالباً ببذل الجهد أو الاجتهاد.

فرص واعدة بشروط واضحة

لكن الصورة ليست قاتمة بالكامل، فهذه العملات إن نُظّمت بشكل رشيد كما تسعى الكثير من دول العالم لتحقيقه فإنها تشكّل فرصة حقيقية. لبنان يستقبل سنوياً تحويلات مغتربين تتجاوز قيمتها 6 مليارات دولار تُقتطع منها نسبة تتراوح بين 10% و15% كعمولات مصرفية أو عمولات لشركات تحويل الأموال. العملات المشفّرة باتت سبيلا ًمتاحاً لتخفيض هذه الكلفة إلى أقل من 2%. كذلك يمكن أن يشكّل لبنان بيئة خصبة لجذب شركات تكنولوجيا البلوك تشين العالمية شرط توفير مناخ تنظيمي مرن كما فعلت سويسرا وسنغافورة.

تحديات أمام التبني المنهجي

التحديات قائمة وموجودة، فالفساد البنيوي في لبنان قد يُفرغ أي تشريع من مضمونه والبنية التحتية المتردية – من انقطاع الكهرباء إلى ضعف الإنترنت – تقف حجر عثرة أمام تبنّي هذه التكنولوجيا على نطاق واسع. أما على المستوى المجتمعي فإن شغف جيل الشباب بالتداول السريع قد يتحول إلى كارثة اقتصادية إذا لم يُقرن بالتعليم المالي والتوعية.

نحو تنظيم متوازن ومُستنير

لا بد من الاعتراف بأن العملات المشفّرة لم تأتِ إلى لبنان بمحض الصدفة بل كاستجابة شعبية لفشل المنظومة المالية. وبينما تحوي هذه الأداة إمكانات واعدة فإن استخدامها العشوائي دون إطار قانوني يُنذر بانفجارات مالية واجتماعية مستقبلية.

الخطوة الأولى تكمن في تنظيم هذا القطاع عبر قانون عصري يوازن بين حماية المستهلك وحرية الابتكار من قبل أشخاص تعمّقوا في فهم واقع العملات الرقمية. ينبغي أيضاً إطلاق حملات توعية إعلامية وأكاديمية تشرح المخاطر والفرص لتوفير منصات تداول مرخّصة وآمنة. كما أن الاستثمار في البنية التحتية الرقمية سيكون شرطاً أساسياً لأي تحول نحو اقتصاد أكثر مرونة وشفافية.

باختصار ليست العملات المشفّرة في لبنان أزمة بحد ذاتها بل مرآة لأزمة أعمق هي غياب الثقة بالدولة والنظام المالي. وإذا لم تُعالج هذه المسائل جذرياً وسريعاً فستبقى العملات الرقمية أداة في أيدي المغامرين لا سيما جيل الشباب، ودون تأطير لن تكون وسيلة للنهوض الاقتصادي. 

محامي وأستاذ مادة سوسيولوجيا واقتصاديات الفساد في كلية الحقوق / الفرع الفرنسي – الجامعة اللبنانية

https://hura7.com/?p=54774

الأكثر قراءة