خاص ـ جريدة الحرة
تعتبر الديموغرافيا في لبنان من أهم عوامل التغيير. وانتقال أكثر من 1.4 مليون نازح هو حدث لن تتأخر آثاره في الظهور. فقد علّمتنا التجربة أن موجات النزوح والتهجير المستمرة منذ بداية الاعتداءات الإسرائيلية، أوائل سبعينيات القرن الماضي، ساهمت في زعزعة استقرار لبنان ثم في تفجيره كما أعاقت تبعاتها مشروع إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب الأهلية.
منذ منتصف أيلول/سبتمبر 2024، عندما وجهت إسرائيل ضربتها الأولى في الحرب الشاملة الدائرة حالياً من خلال تفجير أجهزة النداء وأجهزة اللاسلكي للآلاف من عناصر حزب الله، بدأت أعداد كبيرة من سكان المناطق التي ينتشر فيها هؤلاء بمغادرتها والبحث عن ملاذات آمنة داخل وخارج لبنان. وانضموا بذلك إلى نحو 100 ألف نسمة كانوا قد غادروا بلداتهم في القرى الأمامية من الجنوب اللبناني عقب إطلاق حزب الله حرب إسناد قطاع غزة في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، غداة شن حركة حماس عملية “طوفان الأقصى” التي أدخلت المنطقة في سلسلة من التغيرات الدراماتيكية .
وجدت البيئة الحاضنة لحزب الله نفسها مضطرة إلى الانتشار في نواحي لبنان المختلفة، وصولاً إلى أقصى الشمال في عكار (وخارج لبنان في سوريا والعراق). وفي كثير من الحالات قوبل النازحون بالشكوك والريبة خشية أن تتبعهم غارات الطائرات الإسرائيلية كما حصل في عدة مناطق مضيفة. كما أن إرغام سكان قرى جنوب نهر الليطاني على تركها وما ينطوي عليه ذلك من نية إسرائيل بالحيلولة دون عودتهم إليها سيتسبب في نشوء تجمعات جديدة للّاجئين في ظل الدمار الواسع الذي أصاب الضاحية الجنوبية .
إن بيانات المفوضية السامية للّاجئين التابعة للأمم المتحدة تشير إلى أن أعداد النازحين اللبنانيين في تصاعد مستمرّ حيث ناهزت الـ1.4 مليون نسمة. ويضاف إلى هؤلاء اللاجئون السوريون المقدّر عددهم بمليون نسمة والمقيمون في لبنان منذ أكثر من عشرة أعوام. ناهيك عن نظرائهم الفلسطينيين، ما يضفي طابعاً مأساوياً على المشهد اللبناني العام.
التغيرات الديموغرافية هذه غالباً ما تترافق في لبنان مع تصاعد التوتر الطائفي وخطر تحوله إلى صدامات مسلحة في بلد يعاني منذ خمس سنوات من انهيار اقتصادي كامل انعكست تبعاته على كل وجوه الحياة العامة والخاصة، وذلك بسبب ضيق المساحة والاكتظاظ السكاني وندرة الموارد. وهكذا فإن انتقال أعداد كبيرة من اللبنانيين إلى مناطق ذات أكثريات طائفية مختلفة سيكون له عواقب خطرة على الداخل اللبناني.
ففي عودة إلى سوابق النزوح اللبناني الداخلي، تَشَكّلت ضاحية بيروت الجنوبية كمعقل للقوى السياسية التي انضوى الشيعة فيها من اليسار اللبناني في سبعينيات القرن الماضي، إلى حركة “أمل” و”حزب الله”. فالحرب الأهلية التي حملت سكان بلدات الضاحية الشرقية والشمالية للعاصمة – والتي كان يصطلح على تسميتها “حزام البؤس” – إلى النزوح باتجاه الضاحية الجنوبية، وهم القادمون أصلاً إلى الحزام المذكور بحثاً عن عمل وسكن بعد تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية ضد قراهم في الجنوب، وانعدام فرص العمل في البقاع.
إن الحرب الحالية هي من المصائب التي تتعاقب على لبنان منذ العام 2019 حين انهار القطاع المصرفي وامتنعت الطبقة السياسية عن اتخاذ أي خطوات إصلاحية. ثم وقع تفجير مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020 عندما عمدت السلطة إلى قمع المتظاهرين وأهالي الضحايا. والأخطر وسط ازدحام الأحداث هو أن الهجوم الإسرائيلي الكثيف، وبهذا الحجم من التدمير المنهجي الشامل، سيقود حتماً إلى ارتباك كبير في الوضع السياسي اللبناني المشلول أصلاً وسط الأضرار الهائلة في المجالات الاقتصادية والمادية والعمرانية.
وتركيز التدمير الإسرائيلي الممنهج على مدن تعتبر حواضر الاجتماع الشيعي كالنبطية وصور وبنت جبيل وغيرها سيترك المواطنين الشيعة في حالة من التشرد الدائم والافتقار إلى الانتماء للمكان الذي ستتغير معالمه بعد القصف الهمجي حتى لو أعيد إعماره . هذا وقد دفع الدمار الشديد في القرى والبلدات الشيعية، وبالتالي فقدان موارد العيش لأعداد كبيرة من السكان، إلى توجيه بعض الرؤوس الحامية اتهامات إلى اللبنانيين الآخرين بمحاولة إعادة الشيعة إلى الأحوال البائسة التي عانوا منها أثناء “الجمهورية الأولى” بعد استقلال لبنان .
إن تدمير البيئة الشيعية الحاضنة الذي تقوم به إسرائيل لا ينحصر بإبعاد الصواريخ عن مستوطنات الشمال الإسرائيلية وعدم السماح لسكانها بالعودة إليها، بل هو في عمقه تغيير للخريطة السياسية اللبنانية وإضفاء المزيد من الهشاشة عليها وفتح الأبواب لحرب أهلية واضطرابات لا تنتهي، و بمعزل عن الانتصار أو الخسارة أو الهدنة.