بقلم: الدكتور محمد حلاوي، أستاذ جامعي – كلية العلوم الاقتصادية في الجامعة اللبنانية
شكّل الأسبوع الأخير من شهر أيلول/سبتمبر الماضي منعطفاً خطراً في مجريات الصراع الدائر في الجنوب اللبناني، على مستويين: الأول على المستوى العمليّاتي حيث وسّع العدو الصهيوني قصفه العسكري على الأراضي اللبنانية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وقام بمحاولات دخول برّي في قطاعات عدّة على الحدود الجنوبية اللبنانية؛ والثاني على المستوى المعنوي من خلال التصفية الأفقية لقادة مهمّين في هيكلية حزب الله، ومن ضمنهم الأمين العام السيد حسن نصرالله.
إن إنجاز الاغتيالات أعطى دفعة معنوية لقادة العدو الصهيوني وجنوده حتى على المستوى الشعبي، ممّا أصاب رئيس وزراء الكيان الصهيوني بحالة من “النشوة” جعلته يوسّع حلقة الأهداف المعلنة سابقاً (عودة سكان الشمال)، وانسحاب قوات المقاومة الإسلامية إلى شمال الليطاني، إلى دائرة أشمل بدأت تُسمع عن ألسِنة القادة الإسرائلين كافة لتمتدّ إلى نزع كافة أسلحة حزب الله مروراً بإضعافه سياسياً في الداخل اللبناني وتحجيم دوره. ناهيك عن بدء الحديث عن إعادة النظر في الترسيم البحري وأكثر من ذلك.
فإن نشوة الانتصار “الوهمي” هذه دفعت بوزير مالية الاحتلال، بتسائيل سموتريش، للمطالبة بدولة يهودية تضمّ السعودية، الأردن، مصر، العراق، سوريا، ولبنان. علماً بأن اتفاقيات سلام قد أُبرمت مع كل من مصر والأردن، إضافة إلى قرار البرلمان الإسرائيلي برفض فكرة الدولتين، ممّا ينهي عملياً اتفاقية أوسلو. هذا إضافة إلى تصرفات قيادة الكيان الصهيوني بعدم الاستجابة لنداءات المجتمع الدولي لوقف إطلاق النار، وإنهاء الاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية، وضربهم بعرض الحائط قرارت محكمة العدل الدولية، وصولاً إلى رفضهم استقبال السكرتير العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوثيرس.
في هذا السياق، لا بدّ من التذكير بالإخفاقات الكبيرة التي واجهت تاريخياً العديد من القادة الكبار، وعلى رأسهم هتلر في أربعينات القرن الماضي، حين سيطر بشكلٍ عنجهي على معظم دول أوروبا متجاهلاً إرادة الشعوب في مقاومة الاحتلال وتحرير أراضيهم بأغلى الأثمان. والجميع يعلم كيف كانت نهاية هتلر وجميع قادة دول المحور بعدها مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي عودة لمجريات الأحداث على الأرض، فإن الشرق الأوسط عامة ولبنان خاصة أمام أسابيع قليلة حاسمة وصعبة جداً، قبل حلول الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر، تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية. وأقلّ ما ستشهده هذه الأسابيع:
- استمرار القتال والتدمير في الأراضي المحتلّة، وتحديداً غزّة، بعد أن انخفض الوهج الإعلامي العالمي بتغطية أحداثها أمام المستجدات على الأراضي اللبنانية.
- تعليق مسألة تحرير الرهائن حالياً نظراً لانشغال الإدارة الأميركية الحالية بالانتخابات من جهة، ولاستماتة حماس بالحفاظ على هذة الورقة التفاوضية المهمة مع الإدارة الأميركية الجديدة من جهة أخرى.
- استغلال الكيان الصهيوني خلال الأسابيع القليلة القادمة النصر المعنوي الذي حقّقه باغتيال الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصرالله، وذلك بزيادة رقعة التدمير والتهجير والقتل والقصف العنيف في لبنان، ظنّاً منه أن الخلل العامودي الذي أصاب حزب الله سيكون له أثر كبير على المستويات الأفقية للتنظيم، وكذلك الحال على بيئته التي تعاني من ظروف نزوح خانقة، وذلك من أجل تحقيق دائرة الأهداف الموسّعة التي ذكرناها أعلاه. غير أن الرسالة التي وجهها حزب الله إلى الكيان الصهيوني ليلة اغتيال أمينه العام في 27 أيلول/سبتمبر الماضي، باتّساع رقعة القصف على المدن والمستعمرات، كانت كافية لتوضح بأن الميدان لن يتأثر بما أصاب قادة الحزب. وأتى ذلك ملموساً فعلاً مع صعوبة الخرق البري رغم محاولات عديدة استمرت لثمانية أيام، ممّا دفع بالقيادة الصهيونية لجلب فرق وقوّات إضافية إلى جبهة الشمال. ناهيك عن اتّساع رقعة استهدافات حزب الله لمدن ومستعمرات أخرى وبعدد غارات صاروخية متزايدة يومياً. وهذا ما حصل فعلاً في حرب تموز 2006 حين تعرّض كلّ لبنان تقريباً لعمليات قصف وتدمير. إلّا أن إسرائيل سارعت بقبول القرار 1701 الذي ينصّ على وقف العلميات الحربية بعد تكبّدها خسائر بشرية كبيرة.
- تعليق كافة التحرّكات الداخلية لكتل نيابية لبنانية عدّة، والنداءات الخارجية للاستعجال في إنجاز انتخاب رئيس للجمهورية قبل وقف إطلاق النار، كون هذه المساعي ستبقى مرتبطة بنتائج الانتخابات الأميركية، ممّا يسمح بتنسيق مصالح لبنان بعد الحرب ودول اللجنة الخماسية بناء على شكل القيادة الأميركية الجديدة، وشكل النظام المطلوب لبنانياً والذي سيتأثر بنتائج الحرب الحالية.
- استخدام إيران أسلوب المراوغة بانتظار بلورة صورة القيادة الجديدة الأميركية، علماً أنها غير مستعدّة لتقديم أي تنازل للقيادة الحالية في شهرها الأخير. وفي الوقت نفسه ستحافظ قدر المستطاع على ذراعها الأقوى “حزب الله” من خلال تدخّلها من بعيد في ما يدور في الميدان اللبناني، وتجنّب التدخّل المباشر إلّا عندما تشعر بأن جبهة إسناد غزّة سوف تتأثر لبنانياً مما يضعف قدرتها التفاوضية لاحقاً. وهذا ما حصل فعلاً عند حضور وزير خارجيتها بداية الأسبوع الماضي لنسف قرار القيادة اللبنانية بفصل الجبهات والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق القرار 1701. وقد تبلور ذلك في خطاب نائب الأمين العام لحزب الله الثلاثاء الماضي.
ختاماً، بين نشوة النصر الوهمية للكيان الصهيوني، ومناورة القيادة الإيرانية، وحده شعب لبنان يدفع الثمن: غارات ليلية عنيفة تزداد حدّتها يوماً بعد يوم على البقاع والجنوب وضاحية بيروت زارعة الرعب في قلوب اللبنانيين جميعاً؛ ارتفاع أعداد النازحين وتفاقم أوضاعهم بسبب عجز الدولة عن احتضان هذا الكم الهائل منهم؛ شحّ المساعدات العربية والغربية والدولية بعكس ما حصل عليه النازحون السوريون قبل عشر سنوات. فإلى أين يتّجه لبنان واللبنانيون؟