الحرة بيروت ـ خاص
نشر الكاتب والمحلّل الجيوسياسي الأميركي، جورج فريدمان، مقالاً في موقع “Geopolitical Futures” تحت عنوان “الجغرافيا السياسية للرسوم الجمركية”. وفيه يقول الكاتب إن ثمة مبدئين تحليليين جديرين بالتكرار قبل الخوض في تفاصيل الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب الأسبوع الماضي. أولهما، الدخول في نظام عالمي غير مستقر – وهي حالة انتقال حقبة جيوسياسية من عصر إلى آخر؛ وثانيهما، التمييز بين الضرورات الجيوسياسية والهندسة الجيوسياسية ذات الصلة.
بحسب فريدمان، تُجبر الضرورات الجيوسياسية الدول على التصرف بطرق معينة قابلة للتنبؤ. أما الهندسة الجيوسياسية، فهي كيفية إدارة الدول لضروراتها الجيوسياسية (وهي عملية تتطلب موازنة السياسة الداخلية للدولة بين المرحّبين بالواقع الجديد ومعارضيه). وتكون النتيجة متوقعة، حتى لو كانت العملية التي تنشأ من خلالها أقل وضوحاً، بصرف النظر عن المآل الذي يمليه الواقع الجيوسياسي.
مع أخذ ذلك في الاعتبار، فإن الواقع الجيوسياسي الحالي يتمثل بتآكل النظام العالمي الذي كان قائماً طوال القرن العشرين، بينما يجري التخطيط لعصر جديد آخر. فقد نشأ النظام المتداعي في إمبراطوريات أوروبا الغربية، التي استغلت وصولها إلى المحيط الأطلسي للهيمنة على معظم أنحاء العالم. وفي حين استُبعدت أوروبا الشرقية إلى حدّ كبير من القوة الإمبريالية، استحوذت المملكة المتحدة على حصة الأسد من الثروة تلك، تليها فرنسا وإسبانيا وهولندا. والحال أن تجزئة القارة العجوز إلى دول مستقلة إنما جعلت الحروب العالمية الأولى والثانية والباردة حتمية.
شهد صراع الحرب الباردة مواجهة على طول الخط الفاصل بين الشرق والغرب – والأهم من ذلك، حرباً عالمية بالوكالة على بقايا إمبراطوريات أوروبا (من حروب مباشرة، ومعارك بالوكالة، إلى عمليات سرية وعلنية في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا الجنوبية). وفي الوقت الذي بقيت فيه هذه الحروب محصورة في الواقع الجيوسياسي المتمثل بالدمار المؤكد المتبادل من خلال الحرب النووية، كان من صميم استراتيجية الولايات المتحدة في الحرب الباردة، إنشاء نظام اقتصادي يفيد واشنطن على حساب موسكو.
ويتابع فريدمان بأن الفوائد الاقتصادية للتحالف مع الولايات المتحدة فاقت فوائد التحالف مع السوفييت. إذ كان بإمكان موسكو تقديم الدعم للأنظمة التي تحكم دولة ما، ولكن ليس للدولة نفسها. أما الولايات المتحدة، فكان بإمكانها القيام بالأمرين معاً، مستخدمة ثروتها الطائلة لإدارة أوروبا الغربية وما يُسمى بالعالم الثالث.
وصممت واشنطن استراتيجية لتحرير وتسهيل التجارة في جميع أنحاء الغرب الرأسمالي الذي تقوده. فتضمنت فرض رسوم جمركية، ما سمح للاقتصادات الأوروبية المتعافية واقتصادات العالم الثالث الناشئة بالوصول إلى السوق الأميركية. وهكذا، شكّلت التجارة الحرة سلاحاً رئيساً في الحرب الباردة، ساعد في إعادة بناء أوروبا الغربية وتقويض الاتحاد السوفيتي.
في بعض النواحي، تجاوزت الحرب الباردة سقوط الشيوعية. إذ ظلت روسيا قوة عسكرية، وواصلت الولايات المتحدة استراتيجيتها القائمة على الحرب العسكرية والاقتصادية. لكن حرب أوكرانيا، بحسب فريدمان، دقّت المسمار الأخير في نعش الحرب الباردة. حيث أجبرت محدودية القوة العسكرية والاقتصادية الروسية واشنطن على إعادة النظر في ضرورة مقاومتها لموسكو من خلال الدفاع عن أوروبا، بل وقيمة البعد الاقتصادي للحرب الباردة ذاتها. (لا سيما وأن نقل الإنتاج الصناعي إلى مناطق التحالف الأوروبي المنهار أدى إلى خلق نظام اعتماد في الولايات المتحدة على الإنتاج الأجنبي).
وفق فريدمان، يعني الأمر أن تعليق أو تعطيل الصادرات من هذه الدول، وخاصة الصين، قد يُقوّض الاقتصاد الأميركي. فالدول التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة كانت عرضة لقوى داخلية (كالإضرابات والتمردات والانقلابات وغيرها). بيد أن التكاليف والفوائد المالية للولايات المتحدة تغيرت في هذه العلاقة، إذ ترتفع مخاطر التبعية مع تزايد نقل الصناعات إلى الخارج.
بالمحصّلة، أنشأت الولايات المتحدة نظاماً مفيداً نظرياً، لكنه في الواقع عُرضة للأحداث الداخلية في الدول المُصدّرة. لذلك، ليس من المُستغرب أن تُغيّر واشنطن استراتيجياتها، بما في ذلك تلك المتعلقة بالتجارة، مع انحسار التهديد الروسي. هنا، يقول فريدمان إننا ننتقل من عملية ضرورات ناتجة عن حقائق جيوسياسية إلى عملية هندسة واقع جديد.
ختاماً، يفترض فريدمان أن ترامب، عبر نيّته إحداث صدمة في النظام، إنما فتح الباب أمام هندسةٍ أكثر دقة، بانتظار أن يُثبَت الأمر تاريخياً، أو يُستبعد سريعاً باعتباره فشلاً اقتصادياً. لكن كما فعل أسلاف له، فإن ترامب يتصرف بسرعة وجذرية، على أمل المراجعة لاحقاً حسبما تدعو الحاجة بعد أن يكون قد أرسى المبدأ الاستراتيجي للمفاوضات الذي ستهندس النتيجة النهائية. فالضرورة تتجلّى بتجاوز النظام التجاري الذي جعله ضعف روسيا متقادماً. أما العالم غير المستقر، كما يراه فريدمان، فيحاول إيجاد مرساة جديدة له.