جريدة الحرة
خاص ـ بدأت وزارة الدفاع البلجيكية في إجراء تحقيقات موسعة بعد حادثة مثيرة للقلق تمثّلت في رصد 15 طائرة بدون طيار في أكتوبر 2025، وهي تحلق فوق قاعدة “إلسنبورن” العسكرية الواقعة شرق البلاد، قرب الحدود مع ألمانيا. وبحسب تقارير بلجيكية ، فإن الحادثة وقعت على مدار عدة أيام، ما دفع الوزارة إلى اتخاذ تدابير أمنية عاجلة، وسط تزايد المخاوف من أن تكون هذه الطائرات جزءًا من استراتيجية هجينة تهدف إلى اختبار جاهزية الأنظمة الدفاعية لدول الناتو.
أشارت وزارة الدفاع البلجيكية، في بيان في الثالث من أكتوبر 2025، إلى أنها لا تزال في طور التحقيق، مؤكدة أن تحديد مصدر هذه الطائرات أو هوية الجهة التي أطلقتها لا يزال غير ممكن في الوقت الراهن. ومع ذلك، أفادت تقارير أمنية بأن بعض تلك الطائرات اخترقت المجال الجوي الألماني بعد تحليقها فوق القاعدة البلجيكية، ما أثار قلقًا مزدوجًا في كلا البلدين.
علّق وزير الدفاع البلجيكي، ثيو فرانكن، على الحادثة قائلًا: “أنه لا يوجد في الوقت الحالي أي دليل ملموس يربط هذه الواقعة مباشرة بروسيا”، في إشارة إلى الشكوك التي تثار باستمرار حول دور موسكو في الحروب السيبرانية والهجمات غير التقليدية. لكنه في الوقت ذاته لم يستبعد هذا الاحتمال تمامًا، موضحًا: “يجب التحقيق في هذا الأمر بجدية. ومن وجهة نظري، فإن هذه الحوادث تمثّل نمطًا معتادًا من التهديدات الهجينة. إنها وسائل لإثارة الاضطرابات والتشويش، وهذا النمط يتماشى مع السلوك الروسي منذ سنوات”.
اضطرابات مستمرة تهدد أمن الأجواء الأوروبية
حادثة الطائرات المسيّرة في بلجيكا ليست سوى جزء من سلسلة من الأحداث المشابهة التي شهدتها أوروبا خلال سبتمبر 2025، والتي دفعت بالعديد من الحكومات الأوروبية إلى إعادة تقييم مدى جاهزيتها لمواجهة هذا النوع من التهديدات. ففي الثاني من أكتوبر 2025، تسبب حادث منفصل فوق مطار ميونيخ الألماني في تعليق عمليات مراقبة الحركة الجوية، بعد رصد طائرة بدون طيار في المجال الجوي للمطار، وهو ما أسفر عن إلغاء 17 رحلة جوية، وتأثر قرابة 3000 مسافر. أوضح مطار ميونيخ أنه “تم بالتعاون مع شركات الطيران، توفير الرعاية الفورية للمسافرين الذين تضرروا من تعليق الرحلات الجوية، وذلك في صالات الانتظار الخاصة بالمطار”. وأضاف البيان أن 15 رحلة تم تحويل مسارها إلى مطارات مجاورة، من بينها شتوتغارت، نورمبرغ، فيينا، وفرانكفورت.
تعطلت حركة الطيران في مطارات عدة دول أوروبية أخرى خلال سبتمبر 2025، بما في ذلك الدنمارك والنرويج، بعد تسجيل اختراقات مماثلة لطائرات بدون طيار لمجالها الجوي. وقد أعادت هذه الحوادث إشعال النقاش داخل أروقة الاتحاد الأوروبي حول مدى نجاعة فكرة إنشاء ما يُعرف بـ”جدار الطائرات بدون طيار” على الحدود الشرقية للاتحاد، بهدف منع التوغلات الجوية المحتملة، خصوصًا تلك التي قد تنفذها أطراف مدعومة من روسيا. تزايدت هذه المخاوف بعد حادث أكثر خطورة، تمثل في اختراق نحو 20 طائرة هجومية روسية للمجال الجوي البولندي، الأمر الذي دفع قوات الناتو إلى تفعيل أنظمة الدفاع الجوي، وإطلاق استجابات طارئة كلّفت عشرات الملايين من اليوروهات، وسط حالة تأهب قصوى.
تزايد القلق البريطاني: ثغرات دفاعية ضد المسيّرات
لم تكن المملكة المتحدة بمنأى عن هذا القلق الأوروبي المتزايد. فقد أظهرت مراجعة دفاعية استراتيجية حديثة صادرة عن وزارة الدفاع البريطانية، أن التكنولوجيا المستخدمة لمكافحة الطائرات بدون طيار بحاجة إلى تطوير جذري، إذ أشارت إلى أن معظم الجهود تركزت حتى الآن على طائرات صغيرة، من طراز “الدرون الرباعي” الشبيه بتلك التي عطلت مطار جاتويك في عام 2018، وليس على الطائرات الأكبر حجمًا والأكثر تطورًا، التي يتم رصدها في الأجواء الأوروبية.
يقول روبرت تولاست، الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI)، وهو أحد أبرز مراكز الأبحاث الدفاعية في لندن: “تشعر الشرطة البريطانية والسلطات العسكرية بقلق متزايد من قدرات الطائرات بدون طيار، لكن تركيزهم ظلّ منصبًا على نماذج قديمة من الطائرات المسيّرة، ولم يتم حتى الآن تجهيز منظومة دفاعية شاملة للتعامل مع الطائرات المتقدمة التي قد تحمل أجهزة تجسس أو شحنات متفجرة”. ويضيف تولاست: “إذا أردت حماية مطار من طائرات رباعية صغيرة، فهذا بالفعل تحدٍ كبير، لكنه يصبح أكثر تعقيدًا عندما تتعامل مع طائرات أكثر تطورًا وتخفيًا، مزوّدة بأنظمة ملاحية متقدمة”.
بدأت الشرطة البريطانية بالتعاون مع عدد من الشركات الخاصة في اختبار أنظمة كشف واعتراض جديدة، تشمل تقنيات مثل الموجات الميكروية، وأسلحة التشويش الإلكترونية، وأسراب من طائرات مسيّرة مضادة. لكن تبقى الكلفة العالية لهذه الأنظمة عائقًا أمام تعميمها في جميع المطارات والمرافق الحيوية.
نحو رد أوروبي موحد؟
في ظل تصاعد هذه الحوادث، تتزايد الدعوات داخل الاتحاد الأوروبي لتعزيز التعاون الأمني في مجال مكافحة الطائرات المسيّرة. ويتردد الحديث الآن عن وضع استراتيجية موحدة تعتمد على تقنيات مشتركة، وتبادل فوري للمعلومات الاستخباراتية بين الدول الأعضاء. ومع أن الكثير من الخبراء يشككون في قدرة الاتحاد على تنفيذ برنامج مشترك واسع النطاق في وقت قصير، إلا أن بعض المبادرات الفردية بدأت بالفعل، مثل اقتراحات بولندية بإنشاء “مظلة دفاعية إلكترونية” لحماية المجال الجوي لدول البلطيق ووسط أوروبا. التهديدات الهجينة، مثل تلك التي تمثلها الطائرات بدون طيار، تفرض واقعًا جديدًا على أوروبا، يجعل من الضروري ليس فقط تطوير التكنولوجيا، بل إعادة النظر في السياسات الدفاعية، والاستعداد الجماعي لأي سيناريو غير تقليدي.


