الخميس, نوفمبر 6, 2025
23.4 C
Beirut

الأكثر قراءة

إصدارات أسبوعية

تزييف الانتماء وخراب الهوية: من إدلب إلى دمشق الى السويداء

د. بشير عصمت

 

 جريدة الحرة ـ بيروت

  • علي شريعتي – المفكر الإيراني الذي نقد تديين الاستبداد:
    الدين الحقيقي تحرير، أما الدين المزيف فاستعباد باسم الغيب.”
  • الإمام محمد عبده – رائد الإصلاح الديني في الإسلام الحديث:
    رأيت في الغرب إسلامًا بلا مسلمين، وفي الشرق مسلمين بلا إسلام.”
  • إميل دوركايم – عالم الاجتماع الفرنسي:
    الدين قوة اجتماعية، لا يمكن أن يكون أداة للقتل إلا إذا انحرف عن غايته.”

 

العروبة التي نعرفها ليست نشيدًا إذاعيًا ولا راية حزبية ولا فتاوى عابرة للحدود. العروبة التي حملها سلطان باشا الأطرش، وكتب بها جبران، وغنّت بها فيروز، وسجّلها الكردي والشركسي والأرمني والسرياني بأحرف التاريخ، ليست بحاجة إلى شهادة سلوك من تنظيم الجولاني ولا إلى ختم شرعي من حرس حدود قندهار. من جعل من الإسلام منصة لذبح كل مختلف، ومن العروبة مِبضَعًا لفصل الأعناق، ومن المقاومة شماعة لتحطيم الأوطان، لا يحق له أن يحدّد من هو العربي، ولا من هو المسلم و لا من يستحق البقاء.

اليوم، يُطلب من العلوي أن يقدّم أوراق انتمائه، ومن المسيحي أن يعتذر عن ثقافته، ومن الدرزي أن ينحني للجلاد، ومن الكردي أن يُقنع نفسه أنه “عربي بالإكراه أو بالصمت”، وإلا فالخطف أو النفي أو الذبح. كل هذا باسم “الوحدة”، باسم “الأمة”، باسم “الهوية”، بينما أصحاب الهوية الحقيقيين يُقصَون، وتُمنح راية الانتماء لمن هبطوا علينا من طاجيكستان وتخوم الصين، يوزّعون صكوك الإسلام  بعدما وزع الراحل صكوك العروبة كما يوزّع قَتَلَة التاريخ فتاواهم.

هذا ليس مشروع وحدة. هذا مشروع تصفية. وهذا ليس دينًا. هذا طاعون. وما يفعله الجولاني وأشباهه اليوم في الشمال الغربي وربما الشرقي وحول السويداء ليس جهادًا، بل تطهير إثني مقنّع. وشتّان بين من يحمل بندقية حرية، ومن يحملها ليقيم دولة الذبح المتنقّلة على أنقاض كل اختلاف.

ما يجري اليوم في سوريا لم يعد مجرّد تمرّد أو حرب أهلية أو حتى صراع نفوذ. هو سقوط نهائي للقيم التي ادّعت الأنظمة، وتبعها خصومها المتأسلمون، أنهم يقاتلون باسمها. فمن أرض سلطان باشا الأطرش، ذاك الذي لم ينتظر شهادة من أحد ليحمل راية استقلال العرب، تُختَزَل اليوم العروبة إلى استمارة انتماء تُوقَّع تحت التهديد. هل يحتاج أحفاد سلطان باشا إلى شهادة سلوك من مقاتل مأجور في إدلب أو فتوى بيعة من شيخ في تورا بورا؟ وهل العلوي، الذي عاش وتمازج وتفاعل في عمق الأرض السورية، مدين باعتذار دينيّ كي يُسمح له بالبقاء على قيد العروبة؟ وهل المسيحي، الذي حفظ اللغة والثقافة والترجمة والكتاب، ينتظر فتوى طاجيكية أو قرغيزية ليُعفى من الذبح؟ والكردي، الذي جاهد وقاوم وقُمع، هل ينتظر من الأوزبكي أو الشيشاني أن يُقنعه بسوريّته؟ وهو سوريٌّ قبل أن يتقن أولئك لفظ الحروف؟

إنها مهزلة متوحشة تتنكّر لها كل حضارات البشر. لسنا في دار إسلام ولا في دار حرب. هذه تقسيمات عفا عنها الزمن، لا مكان لها في زمن الدول والمواطنة والقانون. كل أرض يطؤها المسلم لا تصبح دار إسلام، ولا كل من يرفع راية سوداء يملك مفاتيح الجنة أو مفاتيح العروبة. العقل الخفيف وحده يظن أن التنوع نقيصة، أو أن البدو هم قناع التخفي للأنظمة القمعية، كما الشبيحة في سوريا، أو البلطجية في مصر. الثقافة البدوية الأصيلة التي ساهمت في بناء القيم العربية أُهينت حين تحوّلت إلى واجهة إرهاب، لا إلى فضاء أخلاقي للكرم والشجاعة والانتماء.

بين العروبة الثقافية الأصيلة، التي حملت الجميع دون قسر، وبين الفاشية  الدينية  أ

و القومية المتنكرة بالعروبة، فارق لا يدركه دعاة “الوحدة أو الموت”. فالوحدة التي لا تخلق اقتصادًا جامعًا ولا ثقافة نقدية ولا مواطنة متساوية، هي مجرد تصفيق حول عَلم، وأحيانًا حول جثة. والوحدة الدينية التي تقوم على إعلان تفوق فرقة على أخرى، وعلى تكفير الباقين، ليست إلا وصفة للحرب الدائمة، ووقودًا لابتلاع الدين من داخله. لقد تحوّل الدين، في كثير من مناطقنا، إلى وسيلة لإعلان حرب على كل مختلف، حتى بين أبناء المذهب الواحد. والمأساة الأكبر أن هذا التشظي يُرتَكَب باسم “الهوية”، بينما الهوية تُذبح كل يوم على مذابح الفرز الديني واللغوي والإثني.

حين تُستخدم العروبة لإبادة الكرد، أو تُستخدم “الوحدة” لطرد المسيحي، أو تُستخدم “الخلافة” لإبادة العلوي، فنحن لسنا أمام مشاريع تحرر، بل أمام مشاريع موت من الداخل. وعندما يتقدّم الجولاني، أو من على شاكلته، لتقديم نفسه وصيًّا على الاسلام، فإن الكارثة لا تكون فقط في ما يفعل، بل في صمت من ينتظر منه تحريرًا أو نصرًا. أي إسلام هذا الذي تحتاج لإثباته ذبحًا؟ وأي وحدة هذه التي لا تبني مجتمعًا، بل تهدم كل مجتمعاتنا؟

هل يظن الجولاني أن بإمكانه اجتياح السويداء، وإبادة الدروز، ومسح الوجود العلوي، واستئصال المسيحيين، وتطويع الكردي؟ هل يعتقد فعلًا أن بإمكانه التوجه غربًا إلى لبنان لتكرار مشهده الدموي؟ فليعلم أن هذا الهوس الأيديولوجي لم يصنع يومًا وطنًا، ولن يُعيد بناء دولة. إن لبنان الذي تقف حدوده على فوهة زلازل الإقليم، لم يعد يملك رفاهية الانتظار. نعم، لبنان في خطر، لكنه لا ينجو إلا بتقوية دولته، لا بتكريس الطوائف. بالتفاف أبنائه حول ما تبقى من مؤسسات شرعية، لا بالانتحار وراء كل مغامر ومهووس.

الدولة وحدها هي الجواب. دولة سيّدة، عادلة، حازمة، تعيد الاعتبار لقانون المواطنة لا لبطاقة المذهب، وتعيد تموضعها إقليميًا وعربيًا بدبلوماسية نشطة لا بانكفاء فارغ. فالمعادلات تتغير، والتحالفات تُكسر وتُبنى من جديد. ومن ينتظر النووي الإيراني ليحسم توازن القوى لصالحه، يراهن على قنبلة في يد غيره، لا على مؤسسة في يده. ومن يقبل بعودة “لبنان المحمية الدولية” لا يفعل إلا تحويل بلده إلى محمية نفوذ، وليس إلى دولة.

لقد وصلنا إلى لحظة الحقيقة. كل المشاريع التي تُبنى على الطوائف، أو على الوهم القومي، أو على الجنون الديني، لن تنقذ أحدًا. وحدها الدولة المدنية، التي تحتضن الجميع وتحكم بعدل، هي التي تملك حق الوجود. ولبنان ليس بمعزل عمّا يحدث في سوريا. فالدم إذا سال في جبل العرب، لن يتوقف على سفوح جبل لبنان. وحدها الدولة هي ما يفصلنا عن الزوال.

أما الجولاني ومن هم على شاكلته، فليحاولوا أن يحلّوا أحجيتهم القاتلة في صحراء أوهامهم. فالتاريخ لا يُكتب بالذبح، والعروبة لا تُثبت بالإبادة، وسوريا لن تُختصر بفتاوى مستوردة، ولبنان لن يُحكم بحكم الدم. من يظن ذلك… فليقرأ التاريخ لا أحلامه.

بين سوريا ولبنان خيط دم وخيط قدر. ما يُرتكب اليوم في جبل العرب ليس شأنًا محليًا، بل نذير لِما قد يتمدّد غربًا إن لم تنتبه العقول، وتستيقظ الدولة. من يظن أن اجتياح السويداء حدث عابر، لم يقرأ نية التوسّع في عيون القتلة. ومن يعتقد أن لبنان بمنأى عن الطوفان، يراهن على الخرافة. الخطر واحد، والعدو متعدد الأقنعة: مرّة باسم العروبة، ومرّة باسم الدين، ومرّة باسم الطائفة، ومرّة باسم “السنّة الثائرة”، وكلها أقنعة لوحش واحد يقتات على انقسامنا وتفكّكنا.

لبنان لن ينجو إلا إذا بنى دولته، لا إذا تلطّى خلف جماعته. وسوريا لن تقوم إلا إذا تحرّرت من الطغيانين: طغيان النظام، وطغيان الميليشيا. لا عودة للاستقرار من دون وطن مدني حقيقي، من دون سيادة، من دون شراكة متساوية في المواطنة لا في التقاسم الطائفي.

الجولاني قد يذبح جسدًا، لكنه لا يستطيع أن يذبح فكرة الوطن. قد يعتدي على السويداء، لكنه لن ينتزع من السوريين معنى وجودهم. وقد يتسلّل نحو لبنان، لكن لبنان إن وعى، لن يُستباح. وحدها الدولة هي الجواب. وحدها الكرامة المدنية المشتركة هي الطريق. وكل ما عدا ذلك فوضى، وإعادة إنتاج للحرب بأسماء جديدة ودماء قديمة.

هل يظن الجولاني أنه قادر على إبادة الدروز، واحتواء العلويين، وإسكات المسيحيين، وترويض الكرد، ثم التوجه غربًا ليطرق أبواب بيروت؟ فليجرب. لكن فليعلم: لبنان ليس هشيمًا، وسوريا لن تنكسر. وللحرية حراس لا يدفنون رؤوسهم في الرمال … حتى وإن تأخروا.

https://hura7.com/?p=62324

 

الأكثر قراءة