جريدة الحرة
بقلم: داود رمال
يشهد لبنان، منذ انفجار أزمته المالية في خريف عام 2019، اضطرابات سياسية واقتصادية غير مسبوقة أدّت إلى إعادة النظر في العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين الدولة والمنظومة الدولية. وقد برزت مؤشرات عدة، خلال الفترة الأخيرة، توحي بإمكان تبلور مناخ سياسي أكثر وعياً وحداثة في التعاطي مع الملفات الشائكة، ومنها خطاب رئيس الجمهورية أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ورفض رئيس مجلس النواب نبيه بري للخطاب الطائفي في البرلمان، ونجاح السلطة التنفيذية والتشريعية في إقرار قانون السرية المصرفية، فضلاً عن أداء الوفد اللبناني المفاوض مع صندوق النقد الدولي.
تشكّل هذه المؤشرات مجتمعة فرصة ثمينة لتقييم التحوّلات الجارية في الأداء الرسمي، لا سيما على ضوء المقاربات العلمية والسياسية التي تنظر إلى الإصلاح من منظار الاستجابة السياسية والتقنية للأزمات البنيوية.
أولاً: كلمة رئيس الجمهورية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي: التواضع السياسي ومقاربة الواقع الاقتصادي
اتّسم خطاب رئيس الجمهورية أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي مؤخراً بنبرة هادئة وتقييم واقعي للوضع الاقتصادي والمالي، مبتعداً عن الخطاب الشعبوي أو التصعيدي. وقد أشار الرئيس إلى ضرورة إعادة بناء الدولة عبر إصلاحات مالية وهيكلية، أبرزها توحيد سعر الصرف، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتعزيز الحوكمة الرشيدة في المؤسسات العامة.
يتقاطع هذا الخطاب مع توجهات الحكم الرشيد الذي يؤدي حكماً إلى فعالية الدولة، إذ أن الاعتراف بالمشكلة ومصارحة الرأي العام هو أول ركائز استعادة الثقة. كما أن التواضع السياسي، هو سمة للقيادة الفعالة التي تدير التنوع الاجتماعي والاقتصادي بروح التشاركية لا التسلط.
خطاب الرئيس، إذاً، لم يأتِ استعراضياً بل واقعياً، واضعاً الإصبع على مكمن الأزمة، وموحياً بإمكانية التأسيس لتقاطع وطني شامل حول الأولويات الاقتصادية، مما يستوجب البناء على هذه الإشارات بدلاً من تجاهلها. كما أن الاعتراف بالأزمة وطرحها بمسؤولية هو الخطوة الأولى نحو الإصلاح الاقتصادي الحقيقي. فتواضع الخطاب السياسي، كما في هذه الحالة، يعكس استعداداً أكبر لتحمّل المسؤولية وتوسيع قاعدة الحوار المجتمعي.
ثانياً: نبذ الطائفية في المجلس النيابي وموقف رئيس المجلس من ملف الحدود
في الجلسة التشريعية الأخيرة، وجّه رئيس مجلس النواب نبيه بري انتقاداً مباشراً لما وصفه بـ”الخطاب الطائفي المقيت” الذي يتكرر في بعض مداخلات النواب. وقد أشار إلى ضرورة إعادة المجلس إلى موقعه كمنصة وطنية تحتضن كل اللبنانيين بعيداً من الاستقطاب الطائفي. ما يعيد الاعتبار إلى مفهوم “الدولة الجامعة”. هذا الموقف يندرج في إطار رؤية بري التاريخية لدور المجلس كضمانة للوحدة الوطنية، ويستدعي التنويه في زمن التنازع الطائفي.
وفي ما يتعلّق بملف ترسيم الحدود، فإن بري كان أول من أطلق مسار التفاوض غير المباشر مع إسرائيل عبر الرعاية الأميركية والأممية. واضعاً الأسس لعملية التفاوض على الحدود البحرية مع إسرائيل، ودافعاً إلى تثبيت الحدود البرية. وقد أتى هذا التوجّه التفاوضي لاحقاً في خطاب الرئيس جوزاف عون أيضاً، ما عكس تطابقاً غير مألوف في الرؤية بين رأسي السلطتين التشريعية والتنفيذية، حول أهمية صون الحقوق اللبنانية بالطرق السلمية، دون التنازل عن السيادة أو الخضوع للابتزاز الدولي. وفي ذلك تمسك بالسيادة من جهة، وإقرار بأهمية الحوار التفاوضي كوسيلة لحفظ الحقوق دون الذهاب إلى خيارات عسكرية.
من الناحية السياسية، يُعدّ هذا النوع من التفاهم الوطني النادر فرصة استراتيجية، إذ إنه يتقاطع مع مبادئ الحوار الحاسم (Decisive Dialogue) بوصفها السبيل الأفضل لإدارة التعارض في المجتمعات التعددية.
ثالثاً: قانون السرية المصرفية: محطة إصلاحية مفصلية
مثّل إقرار قانون السرية المصرفية المعدّل علامة فارقة في مسار التشريع المالي في لبنان. فقد نجحت الحكومة، برئاسة نواف سلام، بالتعاون مع وزير المالية ياسين جابر، وبدعم من أغلبية نيابية موصوفة، في تمرير قانون طال انتظاره، يعيد فتح الباب أمام الرقابة القضائية على الحسابات المشبوهة، ويمنح الجهات الرقابية، مثل هيئة التحقيق الخاصة، صلاحيات أوسع.
هذا القانون يتقاطع مع توصيات صندوق النقد الدولي، الذي اعتبر في تقريره الصادر في نيسان 2023 أن “السرية المصرفية بنسختها القديمة تُعدّ أحد العوائق الكبرى أمام كشف الفساد”. كما يُعدّ هذا الإنجاز أحد شروط تفعيل خطة التعافي المالي، وشرطاً إلزامياً ضمن الأطر الفنية للتفاوض مع المؤسسات الدولية.
ومن منظور القانون المقارن، فإن ما تحقق يُشبه إلى حدّ بعيد ما قامت به دول أوروبية خرجت من أزمات مصرفية، مثل قبرص وإيسلندا، حيث جرى تعديل القوانين السيادية بما يعيد ضبط العلاقة بين المصارف والدولة، ويرفع الغطاء عن النخب المحمية.
رابعاً: أداء الوفد اللبناني مع صندوق النقد: احترام فرضته الجدية والمسؤولية
الوفد اللبناني المفاوض مع صندوق النقد الدولي، بقيادة وزير المالية ياسين جابر، أظهر مستوى عالياً من الاحترافية في عرض الأرقام وتقديم المقترحات الواقعية. فقد اعتمد الوفد، للمرة الأولى منذ بداية الأزمة، بيانات مالية موحدة نسبياً بين الحكومة والمصرف المركزي، وقدّم ورقة إصلاحية مبنية على أهداف قابلة للتحقيق، مع تعهدات سياسية محددة.
وقد لاقى هذا الأداء احتراماً من جانب مسؤولي صندوق النقد، الذين نوّهوا علناً بما وصفوه بـ”تحسّن القدرة التفاوضية للجانب اللبناني”، وهو أمر نادر في أدبيات التعاون بين الصندوق والدول المتعثرة.
من منظور اقتصادي، لا يقلّ حسن الأداء التفاوضي أهمية عن مضمون الخطة. فالمصداقية هي عامل حاسم في كسر دائرة الشك تجاه أي بلد يبحث عن التمويل الخارجي أو إعادة الهيكلة، والمصداقية التفاوضية أيضاً، تبدأ من جدّية الطرح وليس من قوّة الموقف.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن لبنان، رغم تعمق أزماته البنيوية، يشهد محاولات متفرقة للخروج من المأزق، عبر مقاربات أكثر واقعية وشمولاً في التعامل مع القضايا المالية والاقتصادية. من خطاب التواضع والاعتراف بالأزمة، إلى نبذ الطائفية، ومن تشريعات إصلاحية نوعية إلى مفاوضات محترفة، ثمة إشارات إيجابية لا يجب الاستهانة بها. غير أن التحدي الأساس يكمن في القدرة على الاستمرارية وترسيخ هذه النهج في ثقافة الحكم، وليس فقط كاستثناءات عابرة.
إن ما يشهده لبنان من مواقف وإجراءات في الملفات السياسية والاقتصادية، على محدوديتها، يفتح نافذة أمل أمام احتمالات التقدّم نحو دولة أكثر فاعلية وأقل فساداً، ويبقى التحدي الأساسي هو الاستمرارية والبناء على ما تحقق، مع الضغط الشعبي والمدني للمساءلة والتقييم، بعيداً من الحسابات الطائفية أو الزبائنية. فالمسار الإصلاحي الحقيقي لا يُقاس بالخطابات فحسب، بل بمدى القدرة على تحويلها إلى سياسات عامة قابلة للتطبيق.
إن استثمار هذه اللحظة يتطلب بناء توافق وطني حقيقي حول أجندة إصلاحية متكاملة، ومشاركة فاعلة من المجتمع المدني، وخطة واضحة لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية.